أوكست كونت من الفلسفة الوضعية إلى سوسيولوجيا الصحة - مقالات

أوكست كونت من الفلسفة الوضعية إلى سوسيولوجيا الصحة

 مدخل عام.

أثارت و تثير أعمال أوكست كونت الفلسفية و أفكاره الوضعية ، الكثير من الاهتمام مرفوقاً بجدل و نقاش أكبر. فبين من يراهن على تأسيس كونت للسوسيولوجيا، ومن ينافح عن مكانته المركزية في السجل الوضعي، بين من يعيب على فيلسوف الإنسانية مشروعه المجتمعي، ومن يجد فيه الفيلسوف المصلح. لم تأخذ بعض أفكار كونت حقها من الدراسة مثيل الإقبال الكبير على البحث في تصنيفه للعلوم، أو رسالته الإصلاحية للمجتمع والدولة أو قانونيه في الحالات الثلاث....الخ.

غني عن التوضيح أن عدد الباحثين في الأفكار البيولوجية والطبية لكونت قليل جداً مقارنة مع أولئك الذين اتجهوا نحو دراسته أطروحاته السياسية والإبيستمولوجية. فإذا كان آرون قد جعل من كونت رجلا إصلاحيا، يقوم مذهبه على وحدة النوع و المصير البشريين، ولم يجعل من السؤال عن أصل وضعيته موضع تقصيه وبحثه1، فإن إميل ليتري Émile Littré الذي عاب على المشتغلين بفكر كونت، عدم الاهتمام بتاريخ الفلسفة الوضعية، الذي لم يكتب إلى حدود الآن في نظره، لم ينشغل هو الآخر بالإنتاج العلمي لكونت إلا من أجل الكشف عن المجد و الاعتراف الذي يستحقه هذا الأخير2، بعد أن عانى كونت في حياته و بعيد مماته من تجاهل كبير لأفكاره وتصوراته التجديدية في الفسلفة و المجتمع، لذلك خط ليتري لنفسه منذ البداية حدود عمله، عندما انتدب نفسه تلميذاَ يتغيا التأريخ لفلسفة أستاذه، وقاصاً لحياته، وناقدا أو بالأحرى وازنا لأعماله.

لم يرى كانغليم وهو فيلسوف العلم بامتياز في أوكست كونت، كاتب المخطط العلمي لإعادة تنظيم المجتمع، ولا داعية لدين وضعي، بقدر ما أعجب هذا الأخير بالمشروع العلمي لكونت القاضي بضرورة " الدراسة الواقعية للإنسان، انطلاقاً من المعرفة التي تقدمها العلوم عن العالم الخارجي". إن هذه الدراسة الواقعية التي يتحدث عنها كونت والتي كانت سبباً أساسيا في ظهور الفيزياء الاجتماعية، ومقدمة أساسية لإعادة ترتيب العلوم، وتخليصها من بعض البقاياً اللا -علمية أو اللا –وضعية، لا يمكن في الحقيقة أن تفهم إلا داخل المشروع الكونتي بأكمله، وبالتالي فإن التمييز الذي يضعه كونت بين الحالة العادية والحالة المرضية لا يمكن أن ينظر إليه أو يفهم هو الآخر إلا داخل التفكير في المشروع العلمي و الفلسفي لكونت، أي الفلسفة الوضعية.

لقد فكر كونت في الصحة و المرض أو العادي و المرضي داخل نسقه الوضعي، ليس انطلاقاً من منطق الطبيب العالم، ولا من باب تصنيف العلم، كما لم يخصص درساً واحدا من دروسه الوضعيةً لهذه القضية. لأن أسئلة كونت لم تكن تتجه نحو الأفعال و الظواهر الاجتماعية " البسيطة"، بقدر ما كانت تنزع نحو الكلي أي الإنساني بلغة كونت. لذلك فإن نظر كونت للمرض تم كما سبق القول انطلاقاً من نسقه الفلسفي الوضعي بأكمله، و انطلاقا من مشرعه السياسي والإنساني كلية، فالمبادئ التي فكر فيها كونت بظواهره الاجتماعية هي نفسها التي استخدمها لتحليل المرض، وهي نفسها التي خط بها مشروعه الإصلاحي، حيث كانت أعز مطالب كونت انتقال الإنسانية من مرحلة اللاهوت و الميتافيزيقا إلى المرحلة الوضعية.

لقد قلنا أن المبدأ الذي فكر به كونت في الظواهر الطبيعية، هو نفسه المبدأ الذي استعمله في فهم الظواهر النفسية و الاجتماعية3، وذلك راجع في الحقيقة إلى التحول في المكانة التي أضافها كونت على مبدأ بروساي القائم على أساس وحدة الظواهر الفيزيولوجية و الباثولوجية. حيث رفعه إلى " درجة الأكسيوم العام Axiome Générale، بل إنه قدمه كقانون نيوتن " قانون الجاذبية" أو مبدأ دالميبر. فإذا كان بروساي يعتقد أن المرض ليس " إلا نتاجا لتغير بسيط في كثافة الأنسجة و الأعضاء"، فإن كونت اختصر كل هذا في مبدأ بسيط يقوم على أن " التقدم ليس إلا نمواً للنظام....، وكل تغير اصطناعي artificiel كان أو طبيعي، يرتبط فقط بكثافة الظواهر المعنية، إذ بالرغم من التغير على مستوى الدرجة، تحتفظ الظواهر بترتيبها الأصلي arrangement"4.

  1. كونت والفسلفة الوضعية

أن يكون كونت مؤسساً للفلسفة الوضعية، فذلك ما لم يعد هناك أي مجال للشك فيه. وأن تكون الوضعية فلسفة نزلت من السماء بدون أدنى مقدمات أو أسس لوجودها، أو فلسفة بدون تاريخ إن صح القول، فذلك ما لا يمكن قبوله. خاصة وأن كونت اعتبر في إحدى رسائله سنة 1824 أن البحث عن أجداد مؤسسين يضفي القوة لا الضعف على الاتجاه أو العلم أو الفلسفة التي يؤسسها شخص ما، حتى وإن كان كونت نفسه لم يجد غير كوندروسيه لإعلان ولائه العلمي له.

تقوم الفلسفة الوضعية التي أسسها كونت على مجموعة من المفاهيم التي استعملها كونت لحظة التفكير في الظواهر البيولوجية، ومن جملة هذه المفاهيم التي أثثت بنية الوضعية، يمكن الحديث على ثلاث مفاهيم أساسية نجدها حاضرة بشكل كبير جداً داخل الفهم الكونتي للظاهرة الصحية وهي الإنسان و الواقع، الاستمرارية.

يقوم التاريخ الإنساني في نظر كونت على فكرة المسار الطبيعي للحضارة، حيث تنتقل المجتمعات الإنسانية عبر مسارات موحدة من حالة إلى أخرى، محكومة بقانون واحد، هو قانون الحالات الثلاث. إن هذا الانتقال الذي يوجد في طبيعة الأشياء _ التقدم هو نمو النظام كما يقول كونت-، يتم بشكل طبيعي و حتمي من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيقية و من تم إلى الحالة الوضعية التي تمثل نهاية التاريخ الإنساني، إنه انتقال في الآن ذاته من اللاتنظيم désorganisation إلى إعادة التنظيم réorganisation إلى النظام.

من ناحية ثانية تنهض الفلسفة الوضعية في صيغتها الكونتية على رفض مفهوم الانتقال الجذري أو النقدي، ذلك أن الطريقة الوحيدة للقضاء على مرحلة الفوضى التي تلتصق بحالة اللاتنظيم أي بالحالة الثيولوجية والتي ترتبط دائماً بلحظات التحول و الانتقال، تقتضي كما يقول كونت " الابتعاد عن الاتجاه النقدي من أجل الاتجاه العضوي organique "5، دون أن يعني هذا السعي إلى إعادة بناء الحالة القديمة و بعثها، فالخطأ الذي يسقط فيها الملوك و الأمراء و الشعوب، هو "اعتقادها أن إعادة تنظيم المجتمع، تقتضي الإحياء الخالص للنسق الفيودالي والثيولوجي"6.

يحتل مفهوم الواقع داخل الفلسفة الوضعية مكانة مركزية، فالمشروع الكونتي7 يقوم برمته على محاولة تخليص الفلسفة و معها كل العلوم الطبيعية و الاجتماعية من بقايا اللاهوت و الميتافيزيقا، لهذا يعتبر كونت أن المدرسة الوضعية لا تتميز بأي خاصية متفردة، سوى نهوضها على الدراسة الواقعية للإنسان، انطلاقاً من المعرفة المكتسبة مسبقاً عن العالم الخارجي. فـالفلسفة الوضعية تحوي علوماً خليقة بدراسة الواقع سماها كونت بالعلوم الملموسة SCIENCE CONCRETE ، التي تتناقض من حيث بنيتها و أهدافها و مناهجا وموضوعاتها، القائمة على الوضوح والتنظيم والبساطة، مع العلوم المجردة science abstraite 8، الغامضة لغتها و الملتبسة مفاهيمها.

لقد جعل كونت من الفلسفة الوضعية بكل علومها، تتجه نحو دراسة الإنسان، بعدما تم إبعاده من دائرة العلم والفلسفة، واقتصر الاهتمام على الوجود في صيغته الطبيعية أو الكلية. فالبيولوجيا مثلا لن تكتمل علميتها إلا عندما جعلت من دراسة الإنسان موضوعها الأساسي، " إن دراسة الإنسان يجب أن تهيمن على نسق العلم البيولوجي بأكمله، إما من خلال جعله نقطة انطلاق في كل بحث يقوم به، أو عن طريق وضعه كهدف لهذا البحث"9

تقدم أعمال كونت نفسها كمحاولة كوسمولوجيةCosmologique لفهم الإنسان و العالم في نفس الوقت، مادام الإنسان و العالم يخضعان لنفس الأسس المنطقية التي تخضع الإنسان و العالم10، إن بيان هذه العبارة لا يجد معناه في الحقيقة إلى داخل وحدة المنهج الوضعي وقابلية مقدماته للتطبيق على كل الأسئلة التي يمكن استشكالها. ذلك أن الخلل الذي يصيب الحضارة شبيه بذلك الذي يصيب الإنسان، و المنطق الذي يحكم الظواهر الطبيعية هو عينه المنطق الذي يخضع الظواهر الحضارية، وهذا ربما ما يفسر اتجاه كانغليم إلى الحديث عن سعي كونت إلى إبداع قانون علمي كوني صالح لتفسير كل أشكال الظواهر، سواء كانت هذه الأخيرة طبيعية أو اجتماعية أو نفسية...الخ.


  1. العادي و المرضي في فلسفة كونت الوضعية.

يدخل اهتمام كونت بالظواهر العضوية في إطار مشروعه العلمي بأكمله و القائم على سعيه الحثيث وراء تأسيس علمي وضعي للظواهر الإنسانية و الطبيعة، استجابة لمشروع قديم سبق لبروساي BROUSSAIS ، وبيشا bichât ذلك الرجل العظيم11، أن وضعا بضع قواعده، عندما جعل الأول من الحرب على الميتافيزيقا، مشروعه الأول. وانتدب الثاني جل إمكانيته العلمية لتأسيس علم وضعي قادر على بلوغ القوانين العامة للحياة في كل تجلياتها، فالفيزيولوجيا لم تصبح علماً وضعياً، ولم تكتمل عقلانيتها الوضعية، ولم تتخلص من قيود الثيولوجيا و الميتافيزيقا، إلا عندما بدأت تنظر إلى الظواهر الحيوية كظواهر تخضع لقوانين عامة12. وهو الأمر نفسه الذي يجب أن تعمل البيولوجيا على تحقيقه من أجل الوصول إلى علمية كاملة، و القدرة على دراسة المفهوم الأساسي للحياة و الوقوف عند القوانين الحيوية العامة13. بل إن السوسيولوجيا ذاتها كعلم جديد، يجب أن تسعى وراء القوانين العامة للظواهر الإنسانية، سيما أن هناك قانون أساسي يحكم الفكر الإنساني l’esprit humainيعتقد كونت أنه مكتشفه14، وهو قانون كما هو معروف يقوم على مرور الفكر البشري من ثلاث مراحل أو حالات كبرى، وهي على التوالي الحالة اللاهوتية أو الخيالية، الحالة الميتافيزيقية أو المجردة، وأخيراً الحالة العلمية أو الوضعية.

بالإضافة إلى ذلك فإن إيمان كونت بوحدة التاريخ البشري و الطبيعي معاًَ، وتماثل ظواهرهما، كانت لبنة أساسية في تصور كونت للطبيعة الظواهر البيولوجية عند الإنسان، ف" دراسة الإنسان والعالم الخارجي تشكل بالضرورة – كما يقول كونت- الموضوع المزدوج الدائم لكل تصوراتنا الفلسفية"15، فإذا كان الانتقال من حالة ثقافية وحضارية إلى أخرى لا يعني أبداً تحولا جذرياً أو كيفياً في طبيعة هذه الظواهر، فلأن الظواهر الطبيعية هي الأخرى عندما تنتقل من حالة إلى أخرى لا تغير من طبيعتها وإنما من شكل وجودها الذي يتسع أو يضيق ينمو أو يصغر..الخ.

إن وجود المرض باعتباره خلالا عضوياً داخل الجسد البشري وجود طبيعي، يفرضه وجود المرض في طبيعة الأشياء عينها كما يقول كانغليم. لهذا من الضروري قبل البحث في أسباب الخلل الذي يصيب الجهاز العضوي للإنسان، من الضروري أولا أن نعرف طبيعة هذا الخلل، هل المرض مجرد امتداد أو تطور للحالة الفيزيولوجية ؟ أي هل المرض تغير كمي؟ أم أنه عبارة عن تغير كيفي ينقل العضو من حالة إلى أخرى؟ من شكل للوجود إلى شكل آخر؟.

يقودنا البحث عن إجابة لهذا السؤال إلى الدرس 40 من الفلسفة الوضعية، الذي خصصه أوكست كونت للحديث عن الإشكالية التي تهمنا الآن، أي طبيعة الظواهر البيولوجية. رغم أن الغرض الأساسي من هذا الدرس لم يكن أبداً الخوض في طبيعة الظواهر الباثولوجية، وإنما جعل كونت من البحث عن القوانين التي تحكم التغيرات العضوية غايته الأولى، بالإضافة إلى رغبته في الكشف عن الصعوبات والعوائق التي تعترض التجريب على مستوى الظواهر الحية المرتبطة بالجسم، على غرار مناهج التجريب الناجحة فيما يخص الظواهر الفيزيو_كيماوية.

لقد وجد كونت في مبدأ بروساي القائم على تماثل الظواهر العضوية و استمراريتها، وفي المرض باعتباره ظاهرة عضوية الملاذ الوحيد للإجابة عن هذا السؤال الإبيستمولوجي الذي لازم الحياة الفكرية لكونت بأكلمها. كيف ذلك؟


لا يفرق كونت بين الحالة الفيزيولوجية و الحالة المرضية من حيث الطبيعة لأنهما من طبيعة واحدة، وهذا ما يعني أن ما يصيب الجسم من اختلالات، لا يفسر بكونه انتقالا من حالة فيزيولوجية إلى حالة مرضية أخرى من طبيعة ثانية، فالمرض ليس تغيراً كيفياً، وإنما تغير كمي. " فكلما تطور العضو، إلا وأصبح قابلا للتغير، إما عن طريق تحول مباشر في مجموع الشروط العضوية المعقدة، أو من خلال تغير متنوع لنسق التأثيرات الخارجية"16.

إن ما أحجم كونت عن قوله في هذا المقام حول طبيعة الظواهر المرضية، ورد واضحاً داخل نفس النص عندما استدعى كونت على لسان أحد مؤسسي الطب المعاصر أن " الحالة المرضية لا تختلف جذريا عن الحالة العادية، إنها لا تشكل مقارنة بالأولى إلا امتداداً بسيطاً يتجاوز أو يضيق عن حدود التغير القصوى أو الدنيا، الخاصة بكل ظاهرة عادية في الجسم. دون أن تكون قادرة على خلق ظاهرة جديدة لها مثيلاتها في الحالة الفيزيولوجية"17.

إن وضوح هذه العبارة لا يترك مجالا للشك في أن كونت لم يعرف الظاهرة الباثولوجية، كظاهرة جديدة على الجهاز العضوي للإنسان. فهي مجرد امتداد أو انحصار لهامش التغير الذي يعرفه كل عضو داخل الجسم، لذلك فإن الظاهرة المرضية تمثل بالنسبة لكونت ملاذا حقيقا يمكن أن نستعيض به عن التجريب الاصطناعي الذي يصعب القيام داخل الجسد الإنساني، خاصة وأن المرض لا يعدو أن يكون انتقالا بطيئا و متدرجاً من حالة عادية إلى أخر باثولوجية، وبالتالي طبيعياً عندما يتعلق الأمر بتحول من حالة عادية إلى أخرى غير عادية.

يقود هذا التصور لطبيعة الحالة المرضية في المتن الكونتي إلى مفهوم بالغ الأهمية يتأسس عليه تصور مؤسس السوسيولوجيا للحالة العادية وهو مفهوم التناغم أو الانسجام Harmonie ، الذي يشكل الفكرة العامة للحياة18.

يتخذ مفهوم التناغم عند كونت في علاقته بالحالة الفيزيولوجية مستويين اثنين فليس المقصود بالتناغم، التوازن الذي يعيشه التنظيم العضوي من الداخل، وإنما يعني كذلك تتناغم الكائن الحي مع الوسط الخارجي الذي يشكل الشرط الأساسي للحياة، بمعنى آخر فالمرض لا ينتج عن اختلال توازن داخلي يعيشه الجسم مثل ارتفاع أو انخفاض درجة حرارة الجسم عن 37 درجة مثلا، و ارتفاع نسبة السكر في الدم على 1،1 ميلغرام أو انخفاضها عن 8،0 ميلغرام....الخ. وإنما عن عدم القدرة على التأقلم مع ما يحيط به لأن كل ما يحيط بالجسم يقول كونت، يسعى إلى تدميره، خاصة وأن حالة الحياة تتأثر بدون شك بالقوانين العامة للطبيعة، والشروط الخارجية للوجود سواء ارتبط الأمر بالجو الأرض ومختلف المظاهر الفيزيائية و والكيميائية19.

إن الأمراض إذن لا تحدث إلا من خلال وجود اضطراب معين في المجال أو اختلال محدد في التنظيم العضوي " إن الاضطرابات الطبيعية أو التغيرات الاصطناعية، يمكن أن يكون لها مصدر مزدوج، فهي إما اختلال طبيعي يظهر في الجسم داخل العمل الدائم لأعضائه، أو هو اضطراب أولي في النسق الخارجي لشروط الوجود"20

لا يعني فقدان التوازن أو انهيار الانسجام و التناغم الذي يطبع التنظيم العضوي لحظة المرض كما سبق أن رأينا مع كونت، تغيراً كيفياً للعضو الذي يعيش هذه الحالة، بقدر ما يمثلا وجوداً كمياً مغايراً لذلك الأول، وهي فكرة يدين كونت لبروساي بها، لأن هذا الأخير يعتبر من بين الباحثين الأوائل الذين اتجهوا نحو هذا الطرح، مثله في ذلك مثل بروساي وبيشا و بيونفيل...الخ.

إن تصور كونت للصحة والمرض يمثل نموذجاً للنظرية الدينامية في الطب، التي تمتد جذورها إلى الفلسفة اليونانية، والكتابات الإسلامية في الطب...الخ. يعتبر المرض داخل هذه النظرية مجرد فقدان للتوازن أو الانسجام، فالطبيعة الداخلية للإنسان كما في خارجه تقوم على التوازن والانسجام، وكل فقدان لهذا التوازن أو خلل في هذا الانسجام يعني المرض، ما يعني أن المرض لا يوجد خارج الإنسان، بل يحضر داخله كما يدور خارجه، إذ إن كل اختلال فيما هو متوازن في الإنسان يؤدي إلى المرض، كالأمزجة الأربعة مثلا " الرطوبة، الجفاف sec، البرودة، السخونة".

هذا من جهة، من جهة ثانية تجد أفكار كونت البيوجية، جذورها في تاريخ الفكر البيولوجي، بين أحضان باحثين أساسيين يرجع لها الفضل الكبير في نضج الأطروحة الكونتية. يتعلق الأمر أولا ببروساي الذي مارس تأثيرا كبيراً من خلال كتابه " من التهيج إلى الجنون de l’irritation a la folie" على توجهات كونت البيولوجية، إلى درجة لم يستطع معها كونت الخروج من براديغم بروساي، بالإضافة إلى الطبيب الاسكتلندي براون؛ الذي كان له هو الآخر أثر واضح على اختيارات كونت البيولوجية، لاسيما ما يرتبط بموقفه من الأمراض التي يعتبرها ، مجرد تغيرات كمية تصيب الملكة الخاصة التي تحفظ الحياة أي الهيجان incitabilité .

تعتري أطروحة كونت في الصحة والمرض مجموعة من الثغرات التي يمكن تفهمها بحكم ابتعاد كونت عن الممارسة الطبية، وجهله لمجموعة من مقدماتها الصغرى التي تقوم على بناء التفاصيل. يظهر ذلك حسب كانغليم، في وقوع كونت في خطأين كبيرين، فهو سجن من جهة أطروحته في طابع مجرد، دون أن يقدم أي مثال على تماثل الحالة الصحية و المرضية، فكيف يمكن أن نقبل مثلا _ يقول كانغليم دائماً- بتماثل شريان جامد مع آخر عادي؟ وكيف يمكن أن نقول بتطابق حالة قلب مريض مع قلب عداء athlète . كما أن جانب الصواب مرة ثانية عندما قال بخضوع الحالات العادية والمرضية لنفس القوانين، فالانطلاق من الحالة العادية إلى الحالة المرضية، يقوم على معرفة أولية بالحالة العادية، وهو الأمر الذي لم يقم به كونت نفسه، لأنه لم يرسم أبداً حدود الحالة العادية، ولا قدم معالمها.

تركيب:

يتبين إذن أن حضور إشكالية الصحة داخل أعمال أوكست كونت الوضعية، كان إبيستمولوجيا محضا، لم يظهر إلا لحظة حديثه عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن تصبح البيولوجيا علماً حقيقياً، يستجيب لقواعد المنهج العلمي وضوابطه. لكنه يتضمن إشارات قوية تسير في اتجاهين، فهي تدل أولا كما سبق أن قلنا على النسق الوضعي الكونتي بأكمله " الجهاز المفاهيمي، التصور العام للطبيعة والإنسان...الخ"، وتحمل في نفس الوقت إشارات قوية، واضحة أحيانا وضمنية أحياناً أخرى، على الحاجة إلى علوم جديدة تدرس الظواهر البيولوجية، فهذه الأخيرة كما يؤكد كونت ترتبط بالعالم الخارجي، الذي ليس طبيعياَ بالضرورة، إذ قد يكون اجتماعياَ أو سياسياً. كما أن الممارسة الطبية بالمؤسسات الطبية الفرنسية تبدو متخلفة في نظر كونت لأنها ما زالت تنظر إلى الإنسان باعتباره حيواناً، وهو ما يدعو إلى ضرورة تأسيس علوم جديدة قادرة على فهم التركيب الكبير الذي يطبع الظواهر الإنسانية.

رغم أن كونت لم يتمكن في الحقيقة من الإجابة عن هذا السؤال، أي بالرغم من أنه لم يتمكن من جعل الظاهرة الصحية مجالا للتفكير السوسيولوجي، فذلك راجع في الحقيقة كما سلف الذكر إلى طبيعة السؤال الكونتي. إلا أنه انتدب في المقابل من يجيب عن هذا السؤال، فـدوركايم وارث مشروع التأسيس الفعلي للسوسيولوجيا كان أبلغ مؤسسي العلم الاجتماعي، اهتماماً بطبيعة الفروق الموجودة بين الظواهر العادية والمرضية.


1 Raymond Aron, les étapes de la pensée sociologique, gallimard196

2 Emile littre, auguste comte et la pilosophie positive, introduction de serge Nicolas, l’HARMATTON2007 P VII

3 G,canguilehem, le normal et le pathologique, puf Paris2005 , 10 édition P18

4 Ibid P19

5 Auguste comte, plan des travaux scientifiques nécessaires pour la réorganisation de la société, présentation et notes par Angèle kremer-Marietti, L’Harmattan, PARIS, 2001P57

6 Ibidem

7 يعتبر كويي GOUHIER أن كونت لم يسعى أبداً لأن يكون بيولوجياَ بقدر ما بحث على أن يكون فيلسوفاً للبيولوجيا.

8 Angèle kremer-Marietti, auguste comte et la philosophie positive, L’HARMATTAN, PARIS 2007 P9

9 Auguste comte, P311

10 Angèle kremer-Marietti, auguste comte et la philosophie positive P59

11 استعمل كونت لفظ الرجل العظيم في حديث عن مساهمة بيشا في تاريخ البيولوجيا

12 auguste comte, cours de philosophie positive, Tome troisième. BACHELIER IMPREMEUR-LIBRIARE 1938 P 273


13 يعتبر كونت أن الوظيفة الأساسية للبيولوجيا تكمن في معرفة القوانين الحيوية العامة الوصول إلى المفهوم الأساسي للحياة.

14 Auguste comte, cours de philosopphie positive, 1 lecon, exposition du but de ce cours, ou considérations générales sur la nature et l’importance de la philosophie positive.P22

15 auguste comte, P 272 

16 auguste comte, cours de philosophie positive, Tome troisième..., La philosophie chimique et la philosophie biologique. 1838. BACHELIER IMPREMEUR-LIBRIARE 1938 P 328 

17 Ibid P334

18 Auguste comte, P289

19 Ibid. P290

20 Ibid. P344

مواضيع سابقة
مقالات اجتماعية

شارك مع اصدقائك

تعليقاتكم
اشعارات
اهلا بك اخى الكريم فى مدونة مقالات .
ان كنت من المهتمين بكل جديد حول ما نقدمه من معلومات موثوقة يمكنك الاشترك فى مدونة مقالات حتى تكون اول المستفيدين من مقالاتنا.
=================================
وان كان لديك اى اسئله او اقتراحات يمكنك التواصل معنا عبر مواقع التواصل الاجتماعى اسفل الرساله وسوف نقوم بالرد فى اسرع وقت .
شكرا على المتابعه .

حسنا