مقالات : مقالات اجتماعية
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات اجتماعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات اجتماعية. إظهار كافة الرسائل
 السوسيولوجيا الماركسية

السوسيولوجيا الماركسية

 
1 _ مجال السوسيولوجيا الماركسية

أفكار ماركس هي محاولة لفهم وتحليل بينة المجتمع الرأسمالي الحالية، ومن حيث طريقة اشتغاله الراهنة، ومن حيث مستقبله الضروري.

2 _أهم أفكار ماركس
السوسيولوجيا الماركسية هي محاولة لتحليل المجتمعات الغربية، والنظام الرأسمالية تختلف جذريا من حيث مشروعها ومبادئها العامة عن باقي أشكال التحليل السوسيولوجي التي جايلت الماركسية كالوضعية أو سبقتها خاصة التيارات الاقتصادية الكبرى كالليبرالية أو التي تلت الماركسية وناقشتها مثل الفيبرية أو الوضعية الجديدة.

3 _ماركس تطوري
إذا كان كونت قد وقف في تحليله للمجتمعات الغربية على ملاحظة ظاهرة بسيطة تمثلت في موت واختفاء وانهيار مجتمع ونظام اجتماعي وأخلاقي كامل وولادة آخر, فإن ماركس لم يكن هو الآخر غريبا عن هذه الملاحظة، حيث دافع هو الآخر عن فكرة بداية ونهاية اختفاء المجتمع الفيودالي وظهور مجتمع آخر هو المجتمع الرأسمالي .

4 _ التاريخ مقلوبا
إذا كان كونت يرى أن التاريخ الإنساني يسير نحو التقدم وأن الإنسانية تكتسب قيماً جديدة وجيدة على جميع المستويات فإن ماركس لم يكن مقتنعاً ولا قانعاً بنفس الحقيقة، فالانتقال من بين أنماط الانتاج أي من نظام اجتماعي إلى آخر لك يكن دائما من السيء إلى الحسن إلى الاحسن.
 - نمط الانتاج القديم
- نمط الانتاج العبودي
- نمط الانتاج الفيوالي
- نمط الانتاج الرأسمالي

5 _التطور صراع
يقول ماركس في البيان الشيوعي
تاريخ المجتمعات إلى يومنا هذا تاريخ صراع طبقي، بين أحرار وعبيد، ملاك وعمال، أسياد وأقنان، ... وباختصار بين مضطهدين ومضطهدين، واللذين يوجدون في وضع تعارض دائم.
وظيفة السوسيولوجيا في نظر ماركس هي تحليل التناقض وكشفه
التناقض الموجود في علاقات العمل بين البرجوازية التي تخلق باستمرار وبسرعة كبيرة وبدون انقطاع وسائل الانتاج. لكن المشكل هو أن علاقات الانتاج أي علاقات الملكية وتوزيع الأرباح لا تتغير بنفس السرعة، فالنظام الراسمالي بقدر ما يخلق من ثروات ويراكم من أموال بقدر ما يخلق من فقراء وبؤس أكبر

التناقض الثاني ناتج عن الأول فتطور الثروة وتعاظم البؤس، انطلاقا من هذا التناقض ستخلق يوما ما يسميه ماركس بالثورة، فالبروليتاريا التي توجد من الناحية الديموغرافية بشكل أكبر ستعرف نفسها مع الوقت وستنظم أكثر فأكثر إلى أن تتحول إلى طبقة اجتماعية تطالب بالسلطة وتعمل على تغيير علاقات الاتناج
يقول ماركس في هذا الإطار
كل الثورات التي عرفت في الماضي قامت بها أقليات، وكانت لصالح هذه الأقليات، أما ثورة البروليتاريا فإنها ثورة الأغلبية لصالح الجميع، إن ثورة البروليتاريا ستشكل نهاية الطبقات الاجتماعية والرأسمالية في نفس الوقت
مفهوم المجتمع عند ماركس
يدخل الأفراد في علاقات محددة وضرورية مستقة عن إراداتهم: ” في الانتاج الاجتماعي لوجودهم يعقد البشر علاقات محددة وضرورية ومستقلة عن إرادتهم“ فأما أن تكون محددة فهذا يعني أن الأفراد لا يختارون نوع العلاقات التي يعقدونها ولا نوع الأفعال التي يأتونها، فالفرد بحكم موقعه في عملية الإنتاج وفي علاقات الانتاج، يجد نفس داخل كون محدود ومحدد من العلاقات التي لا محيص عنها.
أن هذه العلاقات ضرورية يعني أن :
- مستقلة عن إرادتهم يعني أن الفرد لا يمتلك أي قدرة على التفكير والتأمل.
 - يقول ماركس في هذا المجال
- ليس وعي الأفراد من يحدد وجودهم الاجتماعي، وإنما وجودهم لاجتماعي هو من يحدد وعيهم.
يمكن أن نميز في كل مجتمع :
- بين القاعدة الاقتصادية أو البنية التحتية وبين البنية الفوقية.

- تقوم البنية التحتية على علاقات الانتاج وقوى الانتاج .

- أما الثانية فهي المؤسسات القانونية والسياسية والفلسفات ونماذج التفكير والايديولوجيات...


 كونت  من الفلسفة الوضعية إلى ديانة الإنسانية

كونت من الفلسفة الوضعية إلى ديانة الإنسانية

    يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مقال، فحياة الرجل وأفكاره تتجاوز حدود الوصف وتصعب على كل تحديد. فكونت مؤسس الفلسفة الوضعية والفيزياء الاجتماعي، هو نفسه كونت النبي، العالم، المجنون، المفكر...الخ، تكثر أوصاف الرجل رغم أننا نتحدث عن نفس الشخص، عن تجربة عز نظيرها في الفكر الإنساني. إننا إذن أمام تجربة فريدة عرفها الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل، وهي التجربة التي جعلت لكونت مكانة كبرى بين عظماء الفكر والعلم الذين عرفتهم الإنسانية.

  • حياة كونت وأعماله

ولد كونت في 19 يناير1798 بمدينة مونبولييه بفرنسا، من أسرة كاثوليكية تدافع عن الملكية، لم تستطع إقناع طفلها الذي هو كونت بما تؤمن به من معتقدات، إذ لم يكد يبلغ كونت من العمر 14 سنة حتى تخلى عن كل أشكال الإيمان الديني، متجها نحو الأفكار الليبرالية والثورية على عادة الكثير من أبناء جيله، التحق كونت بمدرسة البولتيكنيك سنة 1814 حيث كان الأول على رأس قائمة الطلبة المقبولبن بهذه المدرسة، لكنها سرعان ما عاد أدراجه إلى مدينته الأصلية بعدما قررت الحكومة الفرنسية إغلاق نفس المدرسة سنة 1816 بسبب انخراط بعض طلبتها في بعض الجماعات السرية، وهو الأمر الذي دفع كونت إلى الاتجاه نحو دراسة الكب والفيزيولوجيا، قبل أن يعود إلى باريس مدرساً للرياضيات التي اشتهر بإجادتها بين أقرانه. سنة بعد ذلك سيصبح كونت كاتباً خاصاً لسان سيمون، بل معاوناً وصديقاً إلى غاية سنة 1824 حيث سيقرر كونت الانفصال عن هذا الأخير بعدما شاركه في تأليف أهم نصوصه ( الصناعي، المنظم، السياسي، في معنى النظام الصناعي...الخ)، سنة 1819 سيصدر كونت بالتعاون مع شارلي كونت وشارلي دينوير " الفصل العام بين الآراء والرغبات Séparation générale entre les opinions et les désirs" سنة بعد ذلك سيصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث sommaire appréciation sur l’ensemble du passé moderne". ستشكل سنة 1822 تاريخاً مهما في الحياة العلمية لكونت حيث سيصدر كونت " بيان حول الأعمال العلمية الضرورية من أجل إعادة تنظيم المجتمع prospectus des travaux scientifiques nécessaires pour réorganiser la société " قبل أن يصدر سنة 1824 النسق السياسي الوضعي système de politique positive، وهو العمل الذي سيعلن نهاية العلاقة بين كونت وسان سيمون، إذ بعدما باع الأول للثاني حقوق نشر النص، سيقوم الأخير بنشره في مؤلفه " عقيدة الصناعيين" دون أن يشير بالإسم إلى كونت صاحب أهم جزء في هذا النص، ما سيغضب كونت الذي أعلن حربا كلامية على رئيسه واصفا إياه بأبشع الأوصاف، حيث جعل منها " المتلاعب الفاسد " و وصف صداقته ب" الارتباط المضر " كما أن شبه تأثره به ب " التأثر المشؤوم Désastreuse influence ". سنة بعد ذلك سيصدر كونت " تأملات فلسفية حول العلوم والعلماء" و " تأملات حول السلطة الروحية"، ستكون سنة 1825، سنة أكبر خطأ ارتبكه كونت في حياته – حسب تعبيره- عندما سيتزوج كارولين ماسان caroline massine، العاهرة التي تزوجها بناء على حساب خاطئ كما يقول، بل إنه اعترف في أكثر من مناسبة أن " إنه أول خطأ خطير حقيقة ارتكبته في حياتي ". سيصاب كونت سنة 1826 بأزمة عقلية حادة بعد أول هروب لزوجته وبعد تعب عقلي كبير، ما سيؤدي إلى وضع بالمسشتفى، التي لم يغادره إلا بعد ثمانية أشهر، دون أي تحسن على مستوى حالته الصحية، ما سيدفعه مدة قصيرة بعد ذلك إلى محاولة الانتحار، غير أنه سرعان ما سيتجاوز الأمر بعدما فطن إلى ضرورة الالتزام بنظام فيزيقي وعقلي صارم من أجل تجنب هذه الحالة. سيتجدد نشاط كونت الفكر سنة 1929 بالعودة إلى دروس الفلسفة الوضعية التي سيصدر سنة بعد ذلك أو أجزاءها قبل أن يلحقها الباقي سنوات 1835 و1838 و1839 و1841 إلى غاية 1842.

يصف كونت سنة 1845 بالسنة التي لا مثيل لها، حيث أعلن لكلوتيلد دو فو Clotilde de Vaux بحبه لها، التي لم توافقه على دعوته، لتطلب منه أن يظلا صديقين، لأنها مشاعرها اتجاهه عاجزة عن أن تتجاوز حدود الصداقة، ولأن مصائب كونت لا تنتهي شاءت الأقدار أن تموت دو فو أمام كونت دون أن يستطيع القيام بأي شيء سوى التحول نحو جعلها ديناً حقيقياً Véritable Culte. في سنة 1847 أي سنة بعد وفاة دو فو سيعلن كونت عن ديانة الإنسانية التي أرادها دينا وضعيا بديلا عن كل أشكال الإيمان الأخرى التي تجعل الإنسان آخر الكائنات المفكر فيها.

ستشكل سنة 1857 آخر لحظات كونت حيث سيموت في الخامس من شهر شتنبر في باريس وسط تلامذته ومريده، مخلفاً ورائه إرثا علميا ما يزال إلى حدود اليوم مصدرا لكثير من الأعمال العلمية والفلسفية التي تؤسس عليه نظرتها للطبيعة وللعالم والإنسان.

  • مراحل تطور الفكر الكونتي

يمكن التمييز في الحياة الفكرية لكونت كما ذهب إلى ذلك رايمون آرون بين ثلاث محطات كبرى، تعكس التطور الذي عرفته فلسفة كونت وفكره، فأما المرحلة الأولى فهي تلك التي ابتدأت سنة 1820 وانتهت سنة 1826، حيث أصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث، بالإضافة إلى " بيان الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع" وأخيرا تأملات فلسفية حول العلوم والعلماء سنة 1826. أما المرحلة الثانية فقد ارتبطت بإصدار كونت لدروس في الفلسفة الوضعية " 1830 إلى 1842"، أما آخر مراحل تطور الفكر الكونتي فقد انتهت حسب رايمون آرون بإصدار كونت ل" النسق السياسي الوضعي أو مدخل إلى السوسيولوجيا المؤسسة لديانة الإنسانية" ما بين سنتي 1851 و1854.

تعكس هذه المراحل حسب آرون تطوراً نوعياًَ في الفكر الكونتي، تدفع إلى التمييز بين شكلين من الإنتاجات الكونتية، أولى تنتمي إلى مرحلة الشباب؛ حيث التفكير في وضعية مجتمعه وفي الأسئلة الكبرى التي تواجه المجتمع الفرنسي وتواجه الإنسانية بشكل عام، وقد كان كونت في هذه المرحلة شبيها بجل سوسيولوجيي عصره.

انتهت قراءة كونت التطورية لواقع بداية القرن التاسع، بحقيقة صغيرة لكنها دالة على جميع المستويات، لقد لاحظ كونت أن نوعاً جديداً من المجتمعات يتشكل أمام عينيه، مقابل اتجاه آخر نحو الموت، فالمجتمع الثيولوجي العسكري، الذي ميز القرون الوسطى، والذي كانت تحتل فيه الكنسية الكاثوليكية وتعاليمها، والذي كانت تحتل فيه القوة العسكرية مركزاً مهماً في المجتمع، أصبح تنسحب تدريجيا من الحياة العامة، مقابل السماح لنوع آخر من المجتمعات بالظهور، فالمجتمع العلمي الصناعي؛ الذي ولد في نهاية القرن الماضي، استعاض عن الأنبياء ورجال الدين بالعلماء، إذ تحول المجتمع بعدما كان يعتمد في بناء أسسه الفكرية والأخلاقية على رجال الكنسية، نحو العلماء الذين أصبحوا المصدر الأول للأفكار والقيم، والورثة الشرعيون للسلطة الروحية بالمجتمع.

إن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من خلال قراءة الفكر الكونتي المرتبطة بالتفكير في هذه المرحلة هي أن حالة الفوضى واللانظام التي تعيش على واقعها المجتمعات الغربية، لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إصلاح اجتماعي يقوم على إصلاح فكري Réforme intellectuelle، فالثورة والعنف لا يمكن أبداً أن تخرج المجتمع من أزمته كما يقول كونت، بل إننا نحتاج إلى استدعاء مختلف العلوم، وبناء سياسة وضعية، وحدها القادرة على انتشال المجتمعات الغربية من حالة الغربة والفوضى التي تعرفها.

إن الأزمة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، والأمراض والاضطرابات التي تضرب المجتمعات الغربية، لا يمكن تفسيرها في نظر كونت إلا من خلال النظر إلى التناقض الموجود بين نظام ثيولوجي عسكري في طريقه نحو الزوال، ونظام علمي صناعي في طريقه نحو الولادة.

إن هذا التأويل الذي يقدمه كونت للأزمة التي تعيشها فرنسا و من خلالها كل المجتمعات الغربية، تكشف عن وجه آخر من كونت، هو كونت المصلح Réformateur، وليس كونت المذهبي الداعي للثورة كما الحال مع ماركس، أو المذهبي المدافع عن المؤسسات الحرة، مثلما هو الشأن مع مونتسكيو وتوكفيل، إن المذهب الوحيد الذي ينتصر له لحظة تفكيره في مصير أوروبا هو العلم الوضعي والعلم الاجتماعي. في هذا الإطار يرى كونت أن التناقض الذي تعرفه أوروبا بين هذين النموذجين لا يمكن تجاوزه إلا من خلال انتصار النموذج الذي يسميه كونت بالعلمي والصناعي، وهو انتصار حتمي، يمكن التسريع من وثيرته، تأخيره لكنه سيحصل في النهاية، أما وظيفة السوسيولوجيا فهي العمل على فهم هذا المستقبل الحتمي الضروري والذي لا يمكن تجنبه، على نحو يمكن من المساعدة على إتيان هذا الوضع الأساسي.

تتميز المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت كما قلنا سابقاً بإصدار دروس الفلسفة الوضعية، وهي مرحلة لم تتغير فيها الأفكار الكبرى لكونت، بقدر ما اتسع أفقها ومداها لتأخذ بعداً إنسانيا أشمل وأكبر. يسهل على غير الأوروبي كما يقول رايمون آرون أن يلاحظ التردد الذي طبع كونت عند حديثه عن مراحل تطور الفكر البشري، في إضفاء طابع كوني على مشروعه الفكري، فالتطور الذي عاشته وتعيشه أوروبا على مستوى حياتها الفكرية، يكاد يكون هو نفسه التطور الذي ستعرفه المجتمعات الإنسانية الأخرى آجلا أم عاجلا. ما يعني أن المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت لن تعرف تجديداً للإشكاليات التي فكر فيها، بقدر ما ستكون " دروس الفلسفة الوضعية " محاولة لتعميق أفكاره السابقة و" تطبيقاً لبرنامج وضع خطوطه الكبرى في مرحلة الشباب"1.

لقد كانت دروس الفلسفة الوضعية في الحياة الفكرية، فرصة لمراجعة كل العلوم والدفاع عن وتأكيد فكرة قانون الحالات الثلاث، وتصنيف العلوم. فبالنسبة لقانون الحالات الثلاث؛ يعتبر كونت أن الفكر الإنساني يخضع في تطوره لثلاث أطوار كبرى، أولى ثيولوجية؛ يفسر الفكر البشري من خلالها كل الوقائع من خلال إسنادها إلى كائنات وقوى شبيهة بالإنسان نفسه، وثانية يتجه فيها نحو كائنات مجردة مثل الطبيعة، أما الثالثة فهي المرحلة التي يقوم فيها الإنسان بملاحظة الظواهر وتحديد العلاقات الثابتة والدائمة التي تجمع بينها في لحظة معينة أو عبر الزمن، إن الفكر البشري في هذه المرحلة يتجه نحو البحث عن أسباب الأفعال والقوانين التي تنظمها.

إن الانتقال من المرحلة الثيولوجية إلى المرحلة الميتافيزيقية ثم إلى المرحلة الوضعية لا يتم بنفس الطريقة في كل المجالات الفكرية، أي أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في تجربة معرفية وإنسانية معينة لا يتم بالموازاة الانتقال الذي تعرفه مجالات أخرى، بل قد يسبق أحدها الآخر في الوصول إلى مرحلة معينة، كما قد تتأخر تجربة معينة قبل اللحاق بمثيلاتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتبر الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا أول أشكال المعرفة التي استقبلت الفكر الوضعي، بينما تأخر نفس الفكر في الوصول إلى مجالات المعرفة التي تهتم بظواهر مركبة، فكلما كانت المادة أي موضوع العلم بسيطة، كلما كان احتواءها وضعيا أسهل، بل إن هناك من الظواهر من يقدم نفسه بشكل مباشر للملاحظة، وبالتالي المقاربة الوضعية.

إن ترتيب الحالات الثلاث وتصنيف العلوم له غاية واحدة وهي الاستدلال على أن طريقة التفكير السائدة في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ستنتقل إلى مجال السياسة وستساهم في بناء علمي وضعي للمجتمع هو السوسيولوجيا. غير أن الغاية من هذا الترتيب لا تقف عند هذا الحد، أي ضرورة خلق علم جديد هو السوسولوجيا، وإنما تتجاوز ذلك إلى استبدال بعض المعطيات المنهجية كما فعلت البيولوجيا في وقت سابق، عندما كشفت على أن العلوم يجب أن تكون بالضرورة وأساساً، علوما تركيبية وليست علوماً تحليلية، فإن هذا القلب هو الذي سيؤسس لتصور السوسيولوجيا لوحدة التاريخ.

يحمل مفهومي التركيب والتحليل في الفكر الكونتي دلالات واسعة ومتعددة، إذ في الوقت الذي الذي تعتبر فيه علوم الطبيعة غير العضوية inorganique مثل الفيزياء والكيمياء، علوما تحليلية، بالمعنى الذي تتجه فيه هذه العلوم نحو إثبات القوانين الموجودة بين ظواهر معزولة بالضرورة. فإن البيولوجيا يستحيل أن تفسر عضوا أو وظيفة دون الانتباه إلى الكائن الحي بأكمله، فالفعل البيولوجي لا يستمد دلالته وبالتالي لا يمكن تفسيره إلا من خلال التنظيم العضوي الذي يحتويه، أما إذا ما حولنا عزله بشمل تعسفي واصطناعي من الجسد الذي يحتويه، فإننا لا يمكن أن نجد أنفسنا إلا أمام مادة ميتة، أما المادة الحية فإنها عامة وكلية.

إن هذه الفكرة الأخيرة هي التي سيحاول كونت نقلها إلى السوسيولوجيا، إذ من المستحيل أن نفهم ظاهرة اجتماعية معينة، إذا لم نقم بموضعتها في الكل الاجتماعي الذي يحتويها، لا يمكن أن نفهم مكانة الدين أو حالة الدولة في مجتمع معين، ما لم نقم بالنظر إلى هذا المجتمع في كليته. إن أولوية الكل على الجزء هذه التي يدافع عنها كونت، لا ترتبط فقط بحالة داخل لحظة معينة في التاريخ الإنساني، وإما ترتبط بالتاريخ الإنساني بأكمله. لا يمكن أن نفهم المجتمع الفرنسي في بداية القرن التاسع عشر، إذا لم نقم بموقعة هذه اللحظة في مستقبل التاريخ الفرنسي، كما أن الإصلاحRestauration لا يمكن أن يفهم إلا من خلال الثورة، والثورة لا يمكن أن تفهم بدورها إلا من خلال قرون النظام الملكي. كما أن أفول الفكر الثيولوجي والعسكري لا يمكن أن يفسر إلا من خلال البحث عن جذوره في القرون الماضية siècles écoulés، وبالمثل لا يمكن أن نفهم عنصرا في الكل الاجتماعي، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الكل بأكمله، كما لا يمكن أن نفهم لحظة من لحظات التطور التاريخي، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار التطور التاريخي بأكلمه.

يضع هذا النوع من القراءات المنطقية للواقع العقل العلمي أمام مجموعة من الصعوبات الكبرى، وهي نفسها الصعوبات التي واجهت كونت نفسه، خاصة في مسألة أولوية الكل على الجزء؛ فكلي نفهم مثلا لحظة من لحظات تطور المجتمع الفرنسي، علينا أن لا نعود فقط إلى مجمل تاريخ هذا البلد، وإنما يجب أن نرجع إلى تاريخ الإنسانية بأكمله، مادام كونت يقر بوحدة التاريخ الإنساني، ويجعل من السوسيولوجيا علما لتاريخ النوع البشري. لقد كان كونت في رده على هذه الصعوبات واضحاً ومنطقيا إلى أبعد الحدود، فبما أنه وضع التركيب في مرحلة أولى قبل التحليل، فإنه كان يعتبر أن العلم الذي يرغب في تأسيسه يسعى إلى دراسة تاريخ النوع الإنساني، وهو تاريخ واحد، وهذه الفكرة بالضبط هي ما ساعد كونت على تفسير وفهم الكثير من الوظائف الخاصة في الوجود البشري.

أما المرحلة الثالثة من حياة كونت الفكرية، والتي تأسست على " النسق السياسي الوضعي"، فقد حاول من خلاله أن يثبت من خلال نظرية في الطبيعة الإنسانية والطبيعة الاجتماعية وحدة التاريخ الإنساني، وقد حاول كونت أن يعطي بعداً فلسفيا لأطروحته هذه حول وحدة التاريخ الإنساني، فلكي يكون هذا الاخير واحداً، يجب أن يعترف كل واحد منا أن الإنسان سواء عبر العصور أو عبر المجتمعات يمتلك طبيعة معروفة ومحددة، كما أنه يجب على كل المجتمعات الإنسانية أن تتوفر داخلها على نظام أساسي يمكننا من خلاله معرفة وفهم التنوع الذي تعيشه التنظيمات الاجتماعية.

إن أهم فكرة يمكن استخلاصها من تجربة كونت الفكرية التي امتدت على أكثر من أربعين سنة، هو إيمان صاحبها واعتقاده في وحدة التاريخ الإنساني، الذي يخضع لقانون واحد، تنتقل بموجبه المجتمعات الإنسانية كلها من الحالة الثيولوجية العاطفية العسكرية، إلى الحالة الوضعية العلمية الصناعية. أما العلم الذي سيمكننا من فهم هذه القوانين في مرحلة أولى وسيساعدنا على إعادة النظام للمجتمع، وتنظيم عناصره، فهو السوسيولوجيا، باعتبارها أولا علما وضعيا تركيبيا يقوم على فكرة وحدة النوع البشري ووحدة تاريخه، علماً يهتم بالقضايا الكبرى والأسئلة الأساسية التي يواجهها المجتمع بل والإنسانية بشكل عام، أما التفاصيل فهي متروكة للتاريخ للبحث فيها وجمعها. وثانيا لأنها تمدنا بالأفكار والقيم التي يجب أن يتأسس عليها كل إصلاح اجتماعي.

هذا من جهة، من جهة أخرى يمكن القول أن الفلسفة الكونتية تتوزع بين ثلاثة موضوعات كبرى، هي

  1. أن المجتمع الصناعي الذي هو مجتمع أوربا الغربية، يعتبر مثالا لما ستصير عليه الإنسانية في المستقبل، فالتنظيم العلمي والصناعي للعمل الذي وصلت إليه أوروبا يعتبر في نظر كونت نموذجاً يجب أن تحاكيه باقي المجتمعات الأخرى، لأنه النموذج الذي أثبت نجاعته وقوته مقارنة مع باقي النماذج.

  2. البعد المزدوج لكونية الفكر العلمي، فالفكر الوضعي في الرياضيات والفيزياء أو في البيولوجية، له بعد كوني، فطريقة التفكير السائدة في هذه العلوم، صالحة لكل الأوضاع والمجتمعات الإنسانية، لهذا فالعلم الغربي أصبح علماً إنسانياً، ما ينطبق على العلوم التي تهتم بموضوعات غير عضوية يمكن أن يتسع ليصبح صالحاً من أجل دراسة الدين أو السياسة.

  3. أنه إذا كانت الطبيعة الإنسانية واحدة، وإذا كان النظام الاجتماعي واحدا، فكيف يمكن فهم الاختلاف والحفاظ على التنوع الذي نلاحظه في الوجود الإنساني.

بناء على ذلك يمكن القول أن الفكر الكونتي اتخذ ثلاثة أشكال كبرى أولها أن

  1. أن المجتمع الذي يتشكل في الغرب يعتبر اليوم نموذجيا، وعلى كل الإنسانية أن تحذو نفس الطريق التي اتبعها الغرب,

  2. أن تاريخ الإنسانية هو تاريخ الفكر الذي يتجه نحو الفكر الوضعي.

  3. أن تاريخ الإنسانية هو تطور وانفتاح الطبيعة البشرية

في معنى المجتمع الصناعي في الفكر الكونتي:

يحتل مفهوم المجتمع الصناعي مكانة مركزية في الفكر الكونتي، بل يمكن القول إنه من المفاهيم والقضايا القليلة جداً التي استنفذت من هذا الرجل وقتا طويلا وفكراً أطول، غير أن كونت لم يكن غريبا في هذا الشأن عن المرحلة التي عاش فيها هذا الأخير، إذ أن القول بنهاية اللاهوت فكرة كانت متداولة في هذه الفترة بشكل كبير جداً، فقد عبر عنها نيتشه بموت الله واتخذت نفس الفكرة مع الفلسفة الوجودية والفلسفة المادية ومع الماركسية معاني وتعبيرات كثيرة جداً.

إن الحدث الجديد الذي عاشته أوروبا والذي أثار انتباه كل الملاحظين عند نهاية القرن التاسع عشر هو الصناعة، حيث أجمع الكل على أن هناك شيئا ما قد حدث أو في طريقه نحو الولادة، لكن ماهي خصوصيات هذا الحدث؟ وماهي مظاهره ومقوماته؟ بل وما هي آثاره وتناقضاته التي يمكن أن نقف عندها كلما تحدثنا عن الصناعة او المجتمع الصناعي؟

يتفق معظم المهتمين بمفهوم المجتمع الصناعي، على أن الخصائص الكبرى التي يمكن ملاحظتها تتوزع عند ست أساسية وهي:

  1. تقوم الصناعة على تنظيم علمي للعمل، بعدما كان هذا الأخير يتأسس على الأعراف كما أن الإنتاج أصبح يجند كل الموارد.

  2. أدى التنظيم العلمي للعمل إلى الدفع بالإنسان نحو تطوير موارده

  3. الانتاج الصناعي أضبح يتطلب تجميعاً للعمال في مصانع ومعامل، وهي ظاهرة اجتماعية جديدة تمثلت في ظهور طبقة جديدة هي العمال.

  4. تمركز العمال في وحدات صناعية، أنتجت تناقضاً ظاهراًَ مرة ما وخفيا مرة أخرى بين العمال وأرباب العمل، بين البروليتاريا والمقاولين الرأسماليين.

  5. أفرز التنظيم العلمي للعمل الثروة، لكنه أنتج بالمقابل أزمات كثيرة، فوفرة الإنتاج أدت إلى خلق طبقات فقيرة في الأوساط الهشة، إذ بقدر ما هنالك من ملايين من الأشخاص يعانون الفقر، هناك مواد لا تجد من يشتريها.

  6. النظام الاقتصادي المرتبط بالتنظيم الصناعي والعلمي للعمل، تميز بحرية المبادلات وبالبحث عن الربح من طرف المقاولين والتجار، وقد اعتبر بعض المنظرين أن الشرط الأساسي لنمو الثروة هو البحث عن الربح والمنافسة، وأنه كلما تدخلت الدولة في الشؤون الاقتصادية كلما تطور الإنتاج وتطورت الثروة بسرعة.

من داخل كل هذه التوصيفات والتأويلات التي ارتبطت بالمجتمع الصناعي، يقف كونت عند الثلاث خصائص الأولى، تحدد الصناعة بالتنظيم العلمي للعمل، وهذا ما يؤدي إلى النمو المتواصل للثروة وتمركز العمال في المعامل، وهذه الأخيرة تقابل بتمركز الرساميل ووسائل الإنتاج في أيادي محدودة. أما الخاصية الرابعة أي التعارض بين العمال والمقاولين، فإنها في نظره خاصية ثانوية secondaire، إنها نتيجة لسوء تنظيم المجتمع الصناعي ويمكن تصحيحها من خلال إصلاحات. كما أن الأزمات ليست في نظره سوى ظواهر عابرة وسطحية، في الوقت الذي تعتبر فيه الليبرالية أن هذه الأزمات لا تنتمي للمجتمع الحديث، إنها ظواهر مرضية، كما أن لحظة الأزمة لا يمكن أن تكون ثابتة إلا إذا كانت مؤسسة على لعبة المنافسة الحرة. أما بالنسبة للاشتراكيين فإن الخاصية الرابعة هي ما تميز المجتمع الصناعي، إن الفكر الاشتراكي باعتباره فكر الاقتصاديين المتشائمين الذين برزوا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، تطور من خلال التركيز على عملية الصراع بين العمال وأرباب العمل وعلى تواتر الأزمات باعتبارها رجات وهزات لا يمكن تجنبها أبداً بفعل الفوضى التي تخلقها الرأسمالية؛ انطلاقاًَ من هاتين الخاصيتين عرف ماركس المجتمع الصناعي.

لم يجد التأويل الكونتي للمجتمع الصناعي حديث النشأة نفسه بين أي من التأويلات المتعددة التي ارتبطت بهذا الأخير، فالنمو الملاحظ في الثروات وتطبيق العلم في الصناعة، ونمو التبادل الحر، كلها ظواهر وجد فيها الليبراليون والاشتراكيون عيوبا ومقومات كثيرة، لم يقبل كونت كل ما عابه الاشتراكيون على هذا المجتمع، كما لم يستسلم لكل المزايا التي وقف عندها الليبراليون في المجتمع الصناعي. لقد حاول كونت الاقتراب من الاقتصاديين الليبراليين من خلال البحث في القيم، والعمل بشكل مجرد وجاد على تحديد نسق وجود الميتافيزيقيين ، فالفكر الميتافيزيقي في نظره فكر مجرد، فكر مفاهيم، إن فكر اقتصادي عصره.


1 Raymond, Aron, Les Étapes de la Penses Sociologique, Édition Gallimard, 1967, p.81.

أسس علم الاجتماع

أسس علم الاجتماع

 ماذا نعني بأسس علم الاجتماع؟ وما هي الدلالات التي تحملها هذه العبارة؟ ماذا نعني بعلم الاجتماع؟ هل يحمل هذا المفهوم معنى واحد أم أن سعة هذا المفهوم من العمق والكبر ما يجعل منه يستعصي على كل حد يحاول الباحث في السوسيولوجيا أن يقيمه حول هذا العلم وفيه؟ هل يمكن تعريف السوسيولوجيا كما يمكن أن نفعل مع كل علم حق كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفيسيولوجيا؟ هل يجب الاعتماد على هذه العلوم في تعريف السوسيولوجيا بل في تأسيس السوسيولوجيا وتشكيلها كذلك؟

إن ما تطرحه مسألة تعريف علم الاجتماع من إشكاليات وأسئلة أمام الباحث في علم الاجتماع؟ يكاد يكون شبيها بما تطرحه مسألة تعريف نفس المفهوم أمام الفيلسوف؟ والعالم بشكل عام؟ ليس فقط في السوسيولوجيا وإنما في كل العلوم الحقة والإنسانية على حد سواء. فماذا يعني مفهوم الأسس؟ ما الفرق بينه وبين مفهوم المبادئ؟ وأين تبدأ الأسس وأين تنتهي ولماذا الحديث عن الأسس بصيغة الجمع؟ هل يمكن الحديث عندما يتعلق الأمر بعلم الاجتماع عن مفهوم واحد للأسس أم عن مفاهيم عديد لنفس المحمول تبعاًَ لقناعة أو لنستعمل مفهوم ماكس فيبر بشكل أدق رؤية كل عالم للسوسيولوجيا نفسها؟

لا شك أن هذه الأسئلة ومثلها كثير جداً قد تبدو أمام القارئ العادي بل وحتى أمام بعض المتخصصين، غير ذي جدوى، بل إنه تقدم دعما وسندا لؤلئك الذين يشككون في علمية السوسيولوجيا، ويعتبرونها مجرد فلسفة اجتماعية أو فلسفة للتاريخ الغرض منها تقديم صورة حول المجتمع، أو الدفاع عن أدلوجة معينة، غالباًَ ما تكون هي الأدلوجة السائدة ومنحها ما يكفي من مبرارات الاستقرار والاستمرار والهيمنة؟

سنترك هذا النقاش الذي لا أعتقد أنه سيكون في هذه اللحظة لازما أو ضروريا لكتابة هذا المقال ولنعد إلى أول الأسئلة التي يمكن أن تظهر في ذهن كل طالب لحظة الحديث عن أسس علم الاجتماع، فماذا تعني كلمة أسس؟

قبل الخوض في ما تعنيه كلمة أسس من معنى لا بد من الإشارة إلى أن هذا المفهوم يتشاكل ويعود إلى نفس الأصل الذي تنبع منه كثير من المفاهيم الكبرى فكلمة Fondement الفرنسية المشتقة من المصدر Fond العمق أو الجزء القاعدي من شيء ماً، تلتقي مع مفهوم الأساسي fondamental ومع مفهوم الأصولية Fondamentalisme ومع مفهوم المؤسس fondateur والمؤسسة Fondation والحدادة fonderie ومفهوم الرأسمال والأرض Fonds كما يشير إلى مفهوم الذوبان Fondue.

الملاحظة التي يمكن أن نخلص إليها عند النظر إلى هذه المعاني بأكملها هي أن معظمها يحيل على دلالتين أساسيتين متناقضتين ظاهرياً فأما الأولى وهي أن مفهوم الأسس من حيث دلالته اللغوية يشير إلى القاعدة إلى الأرض إلى الجزء الصلب والمتين من كل شيء سواء تعلق الأمر بمعرفة أو عمل أو مكان أو تجارة....الخ، أما الدلالة الثانية، فترتبط بشكل خاص بوجود الأسس باعتبارها الجزء الذائب الذي رغم صلابته يوجد في جميع العناصر، فهو بقدر صلابته ومتانته بقدر ليونته وانسيابيته.

إننا نتحدث إذن عندما يتعلق الأمر بالأسس عن الجزء القاعدي في العلم عن المشترك الذي يجمع ويوحد بين كل المقاربات وبين كل التجارب السوسولوجية، حتى وإن اختلفت من حيث اتجاهاتها ونتائجها وفهمها وتفسيرها للظواهر الاجتماعية التي تشتغل عليها، وبالتالي فإن الأسس بهذا المعني هي الجذع والقاعدة المشتركة بين كل التجارب العلمية التي تسمى أو تسمي نفسها سوسيولوجيا.

من الناحية الفلسفية، يمكن أن أثير الانتباه إلى أن المعجم التقني والنقدي للفلسفة، هو أن مفهوم الأسس يتوسط مفهومين مركزيين في الفلسفة وفي العلم بل وفي كل مجالات الوجود الإنساني، وهما مفهوم الوظيفةFonction والقوة Force. يقدم لالاند ولا نعتقد أن وجود مفهوم الأسس بين هذين المفهومين غريب أو اعتباطي، إذ يمكن القول أن الأسس تمثل قوة كل علم، فهي تشكل من جهة البنيات التي ينهض عليها مشروع العلم، وتمثل من ناحية ثانية أشكال القوة التي يدافع بها العلم عن نفسه أمام العلوم الأخرى، كما أن لهذه الأسس وظيفة أو مجموعة وظائف تنهض بها وتبرر بها وجودها واستمرارها، فالأسس تقدم مبرر وجود العلم ورهاناته الكبرى والأساسية.

تعني كملة أسس:

  1. هي ما يعطي لشيء ما سبب وعلة وجوده: ما يبرر رأيا ما، ما يحدد درجة قبول الفكر لتأكيد ما أو مجموعة إثباتات سواء تأملية أو عملية

  2. إنها الاحتمال الأكثر عمومية والأكثر بساطة" أي النسق المشكل من الافتراضات العامة القليلة.

إذا كان تعريف مفهوم الأسس لا يثير كثيراً من التساؤلات أوالنقاش عندما يتعلق الأمر بمسألة تعريفه وتحديده، وليس بمسألة تعيينه وتشكليه، فإن السوسيولوجيا تعتبر المفهوم الأكثر صعوبة عند التحديد، بل يمكن القول انه باستثناء مسألة معناه اللغوي فإن الباحث في معنى هذه المفهوم يجد نفسه أمام اتجاهات وتيارات قد تفقده الثقة أحياناً في علمية هذا العلم نفسه.

تعني كلمة سوسيولوجيا SOCIOLOGIE من الناحية اللغوية، علم المجتمع، فسوسيولوجي تتكون من لفظتين Socio التي تحيل إلى Sociétas والتي تعني المجتمع، وlogie التي تحيل على الأصل اليوناني logos والتي تعني العلم والدراسة والعقل. غير أن الصعوبة تظهر مرة أخرى من المعنى الذي يمكن أن نلحقه بكل من كلمتي علم ومجتمع.

فالعلم يعني من بين ما يعنيه: مجموع المعارف التي تتوفر على درجة كافية من الوحدة والعمومية وقابلة لأن تقود الناس إلى خلاصات منسجمة لا تعبر عن قناعات راسخة أو أهواء أو أهداف فردية. وإنما تعبر عن علاقات موضوعية نكتشفها بشكل تدريجي، ويتم إثباتها من خلال مناهج تحقق محددة. بشكل عام يمكن القول أن العلم هو الدراسة المنهجية الموضوعية لموضوع ما، فالفيزياء هي علم الطبيعة والبيولوجيا هي علم الحياة والاركيولوجيا هي علم الآثار والباتولوجيا هي علم الأمراض وهكذا دواليك، إذ لا علم إلا بموضوع واحد ولا يمكن أن يكون هناك علم بأكثر من موضوع إذ لا يمكن أن نتحدث مثلا عن علم يهتم بدراسة الفلك والآثار أو بدراسة الآثار والحساب.....الخ. يمكن لعلم أن يكون في خدمة علم آخر أو أن تستفيد من معارفه وخبراته علوم أخرى لكن لا يمكن أبدا أن يكون هناك علم إلا بموضوع واحد، ولأن القول الإنساني عبر التاريخ ليس إلا إجابة عن الأسئلة الوجودية المعروفة سواء نظير تلك التي صاغها كانط قبله بقرون كثيرة سقراط وقبله كونفوشيوس ووووو. فإن المعرفة العلمية تجد نفسها دائما في تقاطع مع ما يعرفه الناس عن موضوعاتها، إذ يتصور الناس المرض ويقدمون أسبابه كما يفعل الطبيب ويستحضر الناس التاريخ كما يمهتن ذلك المؤرخ و يفسرون الظواهر الاجتماعية والنفسية والطبيعية كما يفعل ذلك علماء الاجتماع وعلماء النفس والطبيعة.

إن ما يميز المعرفة العلمية عن المعرفة العامية أو الحس المشترك هو ما سبق أن قلناه، فالعلم لا يتميز بنتائجه غالباً وإنما بمنهجه وطريقة استدلاله وبناءه لموضوعاته، فالمعرفة العلمية وهذا ما نريد التأكيد عليه عندما يتعلق الأمر بعلم الاجتماع أننا أمام علم تفسيراته العلمية وتحليلاته ونتائجه معروفة سلفاً من طرف الناس مثلما هي معروفة نتائج غيره من العلوم كالفيزياء مثلا، فظاهرة سقوط الأجسام تقدم نفسها كمسلمة بسيطة داخل الأوعية الاجتماعية، لكن الوعي العلمي بها لم يتم إلا خلال القرن الثامن عشر، نفس الشيء بالنسبة لكثير من القضايا العلمية الدقيقة الأخرى. الفرق إذن بين المعرفة العلمية والمعرفة الاجتماعية هي أن المعرفة العلمية تبنى موضوعاتها بكل ما تعنيه كلمة البناء من معاني علمية، أما الحس المشترك فإن موضوعاته معطاة معدة سلفا غير مفكر فيها.

تتضمن كلمة سوسيولوجيا مفهوما آخر على قدر كبير من التعقيد هو المجتمع، ماذا تعني كلمة المجتمع؟ ما الفرق بين المجتمع والجماعة؟ متى يكون المجتمع ممكناً؟ ومتى أصبح المجتمع ممكنا؟ هل يجب على عالم الاجتماع أن يطرح مثل هذه الأسئلة الفلسفية؟ هل يعني علم الاجتماع البحث في أصل ونشأة المجتمع أم أن ما يهمه بالدرجة الأولى مثله مثل باقي علماء الطبيعة هو بينة ونسق موضوع علمه نفسه؟

عندمال يرتبط الأمر بالأسس يمكن القول أن التحليل السوسوسيولوجي يتأسس على خمس أسس كبرى تلتقي عندها كل الاتجاهات والتيارات والنظريات والمدارس السوسيولوجية رغم اختلاف فهمها وتفسيرها للواقع، ورغم اختلافها في ترتيب وتقييم حجم هذه الأسس في بناء النظرية السوسيولوجية بل وفي بناء الفعل السوسيولوجي بشكل عام، سواء كان هذا الفعل قراءة ومحاولة لفهم الواقع، أو كان هذا الفعل تدخلا في هذا الواقع نفسه.

عندما نقول أن السوسيولوجيا تلتقي وتتفق على هذه الأسس فإننا نقصد التفكير السوسيولوجي منذ مراحله الأولى سواء مع كونت أو دوركايم، مع فيبر أو ماركس، مع جون ستيوارت مل أو زيمل أو تونيس أو سبنسر موس أو باريتو...الخ، أو في مراحله المتأخرة والحالية، فسواء تعلق الأمر ببورديو أو بودون ببارسونز أو ميرتون بشوتز أو كاستلس...الخ. أما هذه الأسس فهي كالتالي:

  • البعد الجماعي

  • الواقعية

  • الشمولية/ الكونية

  • الإطار النظري

  • المعقولية


أوكست كونت من الفلسفة الوضعية إلى سوسيولوجيا الصحة

أوكست كونت من الفلسفة الوضعية إلى سوسيولوجيا الصحة

 مدخل عام.

أثارت و تثير أعمال أوكست كونت الفلسفية و أفكاره الوضعية ، الكثير من الاهتمام مرفوقاً بجدل و نقاش أكبر. فبين من يراهن على تأسيس كونت للسوسيولوجيا، ومن ينافح عن مكانته المركزية في السجل الوضعي، بين من يعيب على فيلسوف الإنسانية مشروعه المجتمعي، ومن يجد فيه الفيلسوف المصلح. لم تأخذ بعض أفكار كونت حقها من الدراسة مثيل الإقبال الكبير على البحث في تصنيفه للعلوم، أو رسالته الإصلاحية للمجتمع والدولة أو قانونيه في الحالات الثلاث....الخ.

غني عن التوضيح أن عدد الباحثين في الأفكار البيولوجية والطبية لكونت قليل جداً مقارنة مع أولئك الذين اتجهوا نحو دراسته أطروحاته السياسية والإبيستمولوجية. فإذا كان آرون قد جعل من كونت رجلا إصلاحيا، يقوم مذهبه على وحدة النوع و المصير البشريين، ولم يجعل من السؤال عن أصل وضعيته موضع تقصيه وبحثه1، فإن إميل ليتري Émile Littré الذي عاب على المشتغلين بفكر كونت، عدم الاهتمام بتاريخ الفلسفة الوضعية، الذي لم يكتب إلى حدود الآن في نظره، لم ينشغل هو الآخر بالإنتاج العلمي لكونت إلا من أجل الكشف عن المجد و الاعتراف الذي يستحقه هذا الأخير2، بعد أن عانى كونت في حياته و بعيد مماته من تجاهل كبير لأفكاره وتصوراته التجديدية في الفسلفة و المجتمع، لذلك خط ليتري لنفسه منذ البداية حدود عمله، عندما انتدب نفسه تلميذاَ يتغيا التأريخ لفلسفة أستاذه، وقاصاً لحياته، وناقدا أو بالأحرى وازنا لأعماله.

لم يرى كانغليم وهو فيلسوف العلم بامتياز في أوكست كونت، كاتب المخطط العلمي لإعادة تنظيم المجتمع، ولا داعية لدين وضعي، بقدر ما أعجب هذا الأخير بالمشروع العلمي لكونت القاضي بضرورة " الدراسة الواقعية للإنسان، انطلاقاً من المعرفة التي تقدمها العلوم عن العالم الخارجي". إن هذه الدراسة الواقعية التي يتحدث عنها كونت والتي كانت سبباً أساسيا في ظهور الفيزياء الاجتماعية، ومقدمة أساسية لإعادة ترتيب العلوم، وتخليصها من بعض البقاياً اللا -علمية أو اللا –وضعية، لا يمكن في الحقيقة أن تفهم إلا داخل المشروع الكونتي بأكمله، وبالتالي فإن التمييز الذي يضعه كونت بين الحالة العادية والحالة المرضية لا يمكن أن ينظر إليه أو يفهم هو الآخر إلا داخل التفكير في المشروع العلمي و الفلسفي لكونت، أي الفلسفة الوضعية.

لقد فكر كونت في الصحة و المرض أو العادي و المرضي داخل نسقه الوضعي، ليس انطلاقاً من منطق الطبيب العالم، ولا من باب تصنيف العلم، كما لم يخصص درساً واحدا من دروسه الوضعيةً لهذه القضية. لأن أسئلة كونت لم تكن تتجه نحو الأفعال و الظواهر الاجتماعية " البسيطة"، بقدر ما كانت تنزع نحو الكلي أي الإنساني بلغة كونت. لذلك فإن نظر كونت للمرض تم كما سبق القول انطلاقاً من نسقه الفلسفي الوضعي بأكمله، و انطلاقا من مشرعه السياسي والإنساني كلية، فالمبادئ التي فكر فيها كونت بظواهره الاجتماعية هي نفسها التي استخدمها لتحليل المرض، وهي نفسها التي خط بها مشروعه الإصلاحي، حيث كانت أعز مطالب كونت انتقال الإنسانية من مرحلة اللاهوت و الميتافيزيقا إلى المرحلة الوضعية.

لقد قلنا أن المبدأ الذي فكر به كونت في الظواهر الطبيعية، هو نفسه المبدأ الذي استعمله في فهم الظواهر النفسية و الاجتماعية3، وذلك راجع في الحقيقة إلى التحول في المكانة التي أضافها كونت على مبدأ بروساي القائم على أساس وحدة الظواهر الفيزيولوجية و الباثولوجية. حيث رفعه إلى " درجة الأكسيوم العام Axiome Générale، بل إنه قدمه كقانون نيوتن " قانون الجاذبية" أو مبدأ دالميبر. فإذا كان بروساي يعتقد أن المرض ليس " إلا نتاجا لتغير بسيط في كثافة الأنسجة و الأعضاء"، فإن كونت اختصر كل هذا في مبدأ بسيط يقوم على أن " التقدم ليس إلا نمواً للنظام....، وكل تغير اصطناعي artificiel كان أو طبيعي، يرتبط فقط بكثافة الظواهر المعنية، إذ بالرغم من التغير على مستوى الدرجة، تحتفظ الظواهر بترتيبها الأصلي arrangement"4.

  1. كونت والفسلفة الوضعية

أن يكون كونت مؤسساً للفلسفة الوضعية، فذلك ما لم يعد هناك أي مجال للشك فيه. وأن تكون الوضعية فلسفة نزلت من السماء بدون أدنى مقدمات أو أسس لوجودها، أو فلسفة بدون تاريخ إن صح القول، فذلك ما لا يمكن قبوله. خاصة وأن كونت اعتبر في إحدى رسائله سنة 1824 أن البحث عن أجداد مؤسسين يضفي القوة لا الضعف على الاتجاه أو العلم أو الفلسفة التي يؤسسها شخص ما، حتى وإن كان كونت نفسه لم يجد غير كوندروسيه لإعلان ولائه العلمي له.

تقوم الفلسفة الوضعية التي أسسها كونت على مجموعة من المفاهيم التي استعملها كونت لحظة التفكير في الظواهر البيولوجية، ومن جملة هذه المفاهيم التي أثثت بنية الوضعية، يمكن الحديث على ثلاث مفاهيم أساسية نجدها حاضرة بشكل كبير جداً داخل الفهم الكونتي للظاهرة الصحية وهي الإنسان و الواقع، الاستمرارية.

يقوم التاريخ الإنساني في نظر كونت على فكرة المسار الطبيعي للحضارة، حيث تنتقل المجتمعات الإنسانية عبر مسارات موحدة من حالة إلى أخرى، محكومة بقانون واحد، هو قانون الحالات الثلاث. إن هذا الانتقال الذي يوجد في طبيعة الأشياء _ التقدم هو نمو النظام كما يقول كونت-، يتم بشكل طبيعي و حتمي من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيقية و من تم إلى الحالة الوضعية التي تمثل نهاية التاريخ الإنساني، إنه انتقال في الآن ذاته من اللاتنظيم désorganisation إلى إعادة التنظيم réorganisation إلى النظام.

من ناحية ثانية تنهض الفلسفة الوضعية في صيغتها الكونتية على رفض مفهوم الانتقال الجذري أو النقدي، ذلك أن الطريقة الوحيدة للقضاء على مرحلة الفوضى التي تلتصق بحالة اللاتنظيم أي بالحالة الثيولوجية والتي ترتبط دائماً بلحظات التحول و الانتقال، تقتضي كما يقول كونت " الابتعاد عن الاتجاه النقدي من أجل الاتجاه العضوي organique "5، دون أن يعني هذا السعي إلى إعادة بناء الحالة القديمة و بعثها، فالخطأ الذي يسقط فيها الملوك و الأمراء و الشعوب، هو "اعتقادها أن إعادة تنظيم المجتمع، تقتضي الإحياء الخالص للنسق الفيودالي والثيولوجي"6.

يحتل مفهوم الواقع داخل الفلسفة الوضعية مكانة مركزية، فالمشروع الكونتي7 يقوم برمته على محاولة تخليص الفلسفة و معها كل العلوم الطبيعية و الاجتماعية من بقايا اللاهوت و الميتافيزيقا، لهذا يعتبر كونت أن المدرسة الوضعية لا تتميز بأي خاصية متفردة، سوى نهوضها على الدراسة الواقعية للإنسان، انطلاقاً من المعرفة المكتسبة مسبقاً عن العالم الخارجي. فـالفلسفة الوضعية تحوي علوماً خليقة بدراسة الواقع سماها كونت بالعلوم الملموسة SCIENCE CONCRETE ، التي تتناقض من حيث بنيتها و أهدافها و مناهجا وموضوعاتها، القائمة على الوضوح والتنظيم والبساطة، مع العلوم المجردة science abstraite 8، الغامضة لغتها و الملتبسة مفاهيمها.

لقد جعل كونت من الفلسفة الوضعية بكل علومها، تتجه نحو دراسة الإنسان، بعدما تم إبعاده من دائرة العلم والفلسفة، واقتصر الاهتمام على الوجود في صيغته الطبيعية أو الكلية. فالبيولوجيا مثلا لن تكتمل علميتها إلا عندما جعلت من دراسة الإنسان موضوعها الأساسي، " إن دراسة الإنسان يجب أن تهيمن على نسق العلم البيولوجي بأكمله، إما من خلال جعله نقطة انطلاق في كل بحث يقوم به، أو عن طريق وضعه كهدف لهذا البحث"9

تقدم أعمال كونت نفسها كمحاولة كوسمولوجيةCosmologique لفهم الإنسان و العالم في نفس الوقت، مادام الإنسان و العالم يخضعان لنفس الأسس المنطقية التي تخضع الإنسان و العالم10، إن بيان هذه العبارة لا يجد معناه في الحقيقة إلى داخل وحدة المنهج الوضعي وقابلية مقدماته للتطبيق على كل الأسئلة التي يمكن استشكالها. ذلك أن الخلل الذي يصيب الحضارة شبيه بذلك الذي يصيب الإنسان، و المنطق الذي يحكم الظواهر الطبيعية هو عينه المنطق الذي يخضع الظواهر الحضارية، وهذا ربما ما يفسر اتجاه كانغليم إلى الحديث عن سعي كونت إلى إبداع قانون علمي كوني صالح لتفسير كل أشكال الظواهر، سواء كانت هذه الأخيرة طبيعية أو اجتماعية أو نفسية...الخ.


  1. العادي و المرضي في فلسفة كونت الوضعية.

يدخل اهتمام كونت بالظواهر العضوية في إطار مشروعه العلمي بأكمله و القائم على سعيه الحثيث وراء تأسيس علمي وضعي للظواهر الإنسانية و الطبيعة، استجابة لمشروع قديم سبق لبروساي BROUSSAIS ، وبيشا bichât ذلك الرجل العظيم11، أن وضعا بضع قواعده، عندما جعل الأول من الحرب على الميتافيزيقا، مشروعه الأول. وانتدب الثاني جل إمكانيته العلمية لتأسيس علم وضعي قادر على بلوغ القوانين العامة للحياة في كل تجلياتها، فالفيزيولوجيا لم تصبح علماً وضعياً، ولم تكتمل عقلانيتها الوضعية، ولم تتخلص من قيود الثيولوجيا و الميتافيزيقا، إلا عندما بدأت تنظر إلى الظواهر الحيوية كظواهر تخضع لقوانين عامة12. وهو الأمر نفسه الذي يجب أن تعمل البيولوجيا على تحقيقه من أجل الوصول إلى علمية كاملة، و القدرة على دراسة المفهوم الأساسي للحياة و الوقوف عند القوانين الحيوية العامة13. بل إن السوسيولوجيا ذاتها كعلم جديد، يجب أن تسعى وراء القوانين العامة للظواهر الإنسانية، سيما أن هناك قانون أساسي يحكم الفكر الإنساني l’esprit humainيعتقد كونت أنه مكتشفه14، وهو قانون كما هو معروف يقوم على مرور الفكر البشري من ثلاث مراحل أو حالات كبرى، وهي على التوالي الحالة اللاهوتية أو الخيالية، الحالة الميتافيزيقية أو المجردة، وأخيراً الحالة العلمية أو الوضعية.

بالإضافة إلى ذلك فإن إيمان كونت بوحدة التاريخ البشري و الطبيعي معاًَ، وتماثل ظواهرهما، كانت لبنة أساسية في تصور كونت للطبيعة الظواهر البيولوجية عند الإنسان، ف" دراسة الإنسان والعالم الخارجي تشكل بالضرورة – كما يقول كونت- الموضوع المزدوج الدائم لكل تصوراتنا الفلسفية"15، فإذا كان الانتقال من حالة ثقافية وحضارية إلى أخرى لا يعني أبداً تحولا جذرياً أو كيفياً في طبيعة هذه الظواهر، فلأن الظواهر الطبيعية هي الأخرى عندما تنتقل من حالة إلى أخرى لا تغير من طبيعتها وإنما من شكل وجودها الذي يتسع أو يضيق ينمو أو يصغر..الخ.

إن وجود المرض باعتباره خلالا عضوياً داخل الجسد البشري وجود طبيعي، يفرضه وجود المرض في طبيعة الأشياء عينها كما يقول كانغليم. لهذا من الضروري قبل البحث في أسباب الخلل الذي يصيب الجهاز العضوي للإنسان، من الضروري أولا أن نعرف طبيعة هذا الخلل، هل المرض مجرد امتداد أو تطور للحالة الفيزيولوجية ؟ أي هل المرض تغير كمي؟ أم أنه عبارة عن تغير كيفي ينقل العضو من حالة إلى أخرى؟ من شكل للوجود إلى شكل آخر؟.

يقودنا البحث عن إجابة لهذا السؤال إلى الدرس 40 من الفلسفة الوضعية، الذي خصصه أوكست كونت للحديث عن الإشكالية التي تهمنا الآن، أي طبيعة الظواهر البيولوجية. رغم أن الغرض الأساسي من هذا الدرس لم يكن أبداً الخوض في طبيعة الظواهر الباثولوجية، وإنما جعل كونت من البحث عن القوانين التي تحكم التغيرات العضوية غايته الأولى، بالإضافة إلى رغبته في الكشف عن الصعوبات والعوائق التي تعترض التجريب على مستوى الظواهر الحية المرتبطة بالجسم، على غرار مناهج التجريب الناجحة فيما يخص الظواهر الفيزيو_كيماوية.

لقد وجد كونت في مبدأ بروساي القائم على تماثل الظواهر العضوية و استمراريتها، وفي المرض باعتباره ظاهرة عضوية الملاذ الوحيد للإجابة عن هذا السؤال الإبيستمولوجي الذي لازم الحياة الفكرية لكونت بأكلمها. كيف ذلك؟


لا يفرق كونت بين الحالة الفيزيولوجية و الحالة المرضية من حيث الطبيعة لأنهما من طبيعة واحدة، وهذا ما يعني أن ما يصيب الجسم من اختلالات، لا يفسر بكونه انتقالا من حالة فيزيولوجية إلى حالة مرضية أخرى من طبيعة ثانية، فالمرض ليس تغيراً كيفياً، وإنما تغير كمي. " فكلما تطور العضو، إلا وأصبح قابلا للتغير، إما عن طريق تحول مباشر في مجموع الشروط العضوية المعقدة، أو من خلال تغير متنوع لنسق التأثيرات الخارجية"16.

إن ما أحجم كونت عن قوله في هذا المقام حول طبيعة الظواهر المرضية، ورد واضحاً داخل نفس النص عندما استدعى كونت على لسان أحد مؤسسي الطب المعاصر أن " الحالة المرضية لا تختلف جذريا عن الحالة العادية، إنها لا تشكل مقارنة بالأولى إلا امتداداً بسيطاً يتجاوز أو يضيق عن حدود التغير القصوى أو الدنيا، الخاصة بكل ظاهرة عادية في الجسم. دون أن تكون قادرة على خلق ظاهرة جديدة لها مثيلاتها في الحالة الفيزيولوجية"17.

إن وضوح هذه العبارة لا يترك مجالا للشك في أن كونت لم يعرف الظاهرة الباثولوجية، كظاهرة جديدة على الجهاز العضوي للإنسان. فهي مجرد امتداد أو انحصار لهامش التغير الذي يعرفه كل عضو داخل الجسم، لذلك فإن الظاهرة المرضية تمثل بالنسبة لكونت ملاذا حقيقا يمكن أن نستعيض به عن التجريب الاصطناعي الذي يصعب القيام داخل الجسد الإنساني، خاصة وأن المرض لا يعدو أن يكون انتقالا بطيئا و متدرجاً من حالة عادية إلى أخر باثولوجية، وبالتالي طبيعياً عندما يتعلق الأمر بتحول من حالة عادية إلى أخرى غير عادية.

يقود هذا التصور لطبيعة الحالة المرضية في المتن الكونتي إلى مفهوم بالغ الأهمية يتأسس عليه تصور مؤسس السوسيولوجيا للحالة العادية وهو مفهوم التناغم أو الانسجام Harmonie ، الذي يشكل الفكرة العامة للحياة18.

يتخذ مفهوم التناغم عند كونت في علاقته بالحالة الفيزيولوجية مستويين اثنين فليس المقصود بالتناغم، التوازن الذي يعيشه التنظيم العضوي من الداخل، وإنما يعني كذلك تتناغم الكائن الحي مع الوسط الخارجي الذي يشكل الشرط الأساسي للحياة، بمعنى آخر فالمرض لا ينتج عن اختلال توازن داخلي يعيشه الجسم مثل ارتفاع أو انخفاض درجة حرارة الجسم عن 37 درجة مثلا، و ارتفاع نسبة السكر في الدم على 1،1 ميلغرام أو انخفاضها عن 8،0 ميلغرام....الخ. وإنما عن عدم القدرة على التأقلم مع ما يحيط به لأن كل ما يحيط بالجسم يقول كونت، يسعى إلى تدميره، خاصة وأن حالة الحياة تتأثر بدون شك بالقوانين العامة للطبيعة، والشروط الخارجية للوجود سواء ارتبط الأمر بالجو الأرض ومختلف المظاهر الفيزيائية و والكيميائية19.

إن الأمراض إذن لا تحدث إلا من خلال وجود اضطراب معين في المجال أو اختلال محدد في التنظيم العضوي " إن الاضطرابات الطبيعية أو التغيرات الاصطناعية، يمكن أن يكون لها مصدر مزدوج، فهي إما اختلال طبيعي يظهر في الجسم داخل العمل الدائم لأعضائه، أو هو اضطراب أولي في النسق الخارجي لشروط الوجود"20

لا يعني فقدان التوازن أو انهيار الانسجام و التناغم الذي يطبع التنظيم العضوي لحظة المرض كما سبق أن رأينا مع كونت، تغيراً كيفياً للعضو الذي يعيش هذه الحالة، بقدر ما يمثلا وجوداً كمياً مغايراً لذلك الأول، وهي فكرة يدين كونت لبروساي بها، لأن هذا الأخير يعتبر من بين الباحثين الأوائل الذين اتجهوا نحو هذا الطرح، مثله في ذلك مثل بروساي وبيشا و بيونفيل...الخ.

إن تصور كونت للصحة والمرض يمثل نموذجاً للنظرية الدينامية في الطب، التي تمتد جذورها إلى الفلسفة اليونانية، والكتابات الإسلامية في الطب...الخ. يعتبر المرض داخل هذه النظرية مجرد فقدان للتوازن أو الانسجام، فالطبيعة الداخلية للإنسان كما في خارجه تقوم على التوازن والانسجام، وكل فقدان لهذا التوازن أو خلل في هذا الانسجام يعني المرض، ما يعني أن المرض لا يوجد خارج الإنسان، بل يحضر داخله كما يدور خارجه، إذ إن كل اختلال فيما هو متوازن في الإنسان يؤدي إلى المرض، كالأمزجة الأربعة مثلا " الرطوبة، الجفاف sec، البرودة، السخونة".

هذا من جهة، من جهة ثانية تجد أفكار كونت البيوجية، جذورها في تاريخ الفكر البيولوجي، بين أحضان باحثين أساسيين يرجع لها الفضل الكبير في نضج الأطروحة الكونتية. يتعلق الأمر أولا ببروساي الذي مارس تأثيرا كبيراً من خلال كتابه " من التهيج إلى الجنون de l’irritation a la folie" على توجهات كونت البيولوجية، إلى درجة لم يستطع معها كونت الخروج من براديغم بروساي، بالإضافة إلى الطبيب الاسكتلندي براون؛ الذي كان له هو الآخر أثر واضح على اختيارات كونت البيولوجية، لاسيما ما يرتبط بموقفه من الأمراض التي يعتبرها ، مجرد تغيرات كمية تصيب الملكة الخاصة التي تحفظ الحياة أي الهيجان incitabilité .

تعتري أطروحة كونت في الصحة والمرض مجموعة من الثغرات التي يمكن تفهمها بحكم ابتعاد كونت عن الممارسة الطبية، وجهله لمجموعة من مقدماتها الصغرى التي تقوم على بناء التفاصيل. يظهر ذلك حسب كانغليم، في وقوع كونت في خطأين كبيرين، فهو سجن من جهة أطروحته في طابع مجرد، دون أن يقدم أي مثال على تماثل الحالة الصحية و المرضية، فكيف يمكن أن نقبل مثلا _ يقول كانغليم دائماً- بتماثل شريان جامد مع آخر عادي؟ وكيف يمكن أن نقول بتطابق حالة قلب مريض مع قلب عداء athlète . كما أن جانب الصواب مرة ثانية عندما قال بخضوع الحالات العادية والمرضية لنفس القوانين، فالانطلاق من الحالة العادية إلى الحالة المرضية، يقوم على معرفة أولية بالحالة العادية، وهو الأمر الذي لم يقم به كونت نفسه، لأنه لم يرسم أبداً حدود الحالة العادية، ولا قدم معالمها.

تركيب:

يتبين إذن أن حضور إشكالية الصحة داخل أعمال أوكست كونت الوضعية، كان إبيستمولوجيا محضا، لم يظهر إلا لحظة حديثه عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن تصبح البيولوجيا علماً حقيقياً، يستجيب لقواعد المنهج العلمي وضوابطه. لكنه يتضمن إشارات قوية تسير في اتجاهين، فهي تدل أولا كما سبق أن قلنا على النسق الوضعي الكونتي بأكمله " الجهاز المفاهيمي، التصور العام للطبيعة والإنسان...الخ"، وتحمل في نفس الوقت إشارات قوية، واضحة أحيانا وضمنية أحياناً أخرى، على الحاجة إلى علوم جديدة تدرس الظواهر البيولوجية، فهذه الأخيرة كما يؤكد كونت ترتبط بالعالم الخارجي، الذي ليس طبيعياَ بالضرورة، إذ قد يكون اجتماعياَ أو سياسياً. كما أن الممارسة الطبية بالمؤسسات الطبية الفرنسية تبدو متخلفة في نظر كونت لأنها ما زالت تنظر إلى الإنسان باعتباره حيواناً، وهو ما يدعو إلى ضرورة تأسيس علوم جديدة قادرة على فهم التركيب الكبير الذي يطبع الظواهر الإنسانية.

رغم أن كونت لم يتمكن في الحقيقة من الإجابة عن هذا السؤال، أي بالرغم من أنه لم يتمكن من جعل الظاهرة الصحية مجالا للتفكير السوسيولوجي، فذلك راجع في الحقيقة كما سلف الذكر إلى طبيعة السؤال الكونتي. إلا أنه انتدب في المقابل من يجيب عن هذا السؤال، فـدوركايم وارث مشروع التأسيس الفعلي للسوسيولوجيا كان أبلغ مؤسسي العلم الاجتماعي، اهتماماً بطبيعة الفروق الموجودة بين الظواهر العادية والمرضية.


1 Raymond Aron, les étapes de la pensée sociologique, gallimard196

2 Emile littre, auguste comte et la pilosophie positive, introduction de serge Nicolas, l’HARMATTON2007 P VII

3 G,canguilehem, le normal et le pathologique, puf Paris2005 , 10 édition P18

4 Ibid P19

5 Auguste comte, plan des travaux scientifiques nécessaires pour la réorganisation de la société, présentation et notes par Angèle kremer-Marietti, L’Harmattan, PARIS, 2001P57

6 Ibidem

7 يعتبر كويي GOUHIER أن كونت لم يسعى أبداً لأن يكون بيولوجياَ بقدر ما بحث على أن يكون فيلسوفاً للبيولوجيا.

8 Angèle kremer-Marietti, auguste comte et la philosophie positive, L’HARMATTAN, PARIS 2007 P9

9 Auguste comte, P311

10 Angèle kremer-Marietti, auguste comte et la philosophie positive P59

11 استعمل كونت لفظ الرجل العظيم في حديث عن مساهمة بيشا في تاريخ البيولوجيا

12 auguste comte, cours de philosophie positive, Tome troisième. BACHELIER IMPREMEUR-LIBRIARE 1938 P 273


13 يعتبر كونت أن الوظيفة الأساسية للبيولوجيا تكمن في معرفة القوانين الحيوية العامة الوصول إلى المفهوم الأساسي للحياة.

14 Auguste comte, cours de philosopphie positive, 1 lecon, exposition du but de ce cours, ou considérations générales sur la nature et l’importance de la philosophie positive.P22

15 auguste comte, P 272 

16 auguste comte, cours de philosophie positive, Tome troisième..., La philosophie chimique et la philosophie biologique. 1838. BACHELIER IMPREMEUR-LIBRIARE 1938 P 328 

17 Ibid P334

18 Auguste comte, P289

19 Ibid. P290

20 Ibid. P344

اشعارات
اهلا بك اخى الكريم فى مدونة مقالات .
ان كنت من المهتمين بكل جديد حول ما نقدمه من معلومات موثوقة يمكنك الاشترك فى مدونة مقالات حتى تكون اول المستفيدين من مقالاتنا.
=================================
وان كان لديك اى اسئله او اقتراحات يمكنك التواصل معنا عبر مواقع التواصل الاجتماعى اسفل الرساله وسوف نقوم بالرد فى اسرع وقت .
شكرا على المتابعه .

حسنا