كونت من الفلسفة الوضعية إلى ديانة الإنسانية - مقالات

كونت من الفلسفة الوضعية إلى ديانة الإنسانية

    يصعب جدا بل يستحيل اختصار حياة وفكر كونت في ورقة أو اختزلها في مقال، فحياة الرجل وأفكاره تتجاوز حدود الوصف وتصعب على كل تحديد. فكونت مؤسس الفلسفة الوضعية والفيزياء الاجتماعي، هو نفسه كونت النبي، العالم، المجنون، المفكر...الخ، تكثر أوصاف الرجل رغم أننا نتحدث عن نفس الشخص، عن تجربة عز نظيرها في الفكر الإنساني. إننا إذن أمام تجربة فريدة عرفها الفكر الإنساني عبر تاريخه الطويل، وهي التجربة التي جعلت لكونت مكانة كبرى بين عظماء الفكر والعلم الذين عرفتهم الإنسانية.

  • حياة كونت وأعماله

ولد كونت في 19 يناير1798 بمدينة مونبولييه بفرنسا، من أسرة كاثوليكية تدافع عن الملكية، لم تستطع إقناع طفلها الذي هو كونت بما تؤمن به من معتقدات، إذ لم يكد يبلغ كونت من العمر 14 سنة حتى تخلى عن كل أشكال الإيمان الديني، متجها نحو الأفكار الليبرالية والثورية على عادة الكثير من أبناء جيله، التحق كونت بمدرسة البولتيكنيك سنة 1814 حيث كان الأول على رأس قائمة الطلبة المقبولبن بهذه المدرسة، لكنها سرعان ما عاد أدراجه إلى مدينته الأصلية بعدما قررت الحكومة الفرنسية إغلاق نفس المدرسة سنة 1816 بسبب انخراط بعض طلبتها في بعض الجماعات السرية، وهو الأمر الذي دفع كونت إلى الاتجاه نحو دراسة الكب والفيزيولوجيا، قبل أن يعود إلى باريس مدرساً للرياضيات التي اشتهر بإجادتها بين أقرانه. سنة بعد ذلك سيصبح كونت كاتباً خاصاً لسان سيمون، بل معاوناً وصديقاً إلى غاية سنة 1824 حيث سيقرر كونت الانفصال عن هذا الأخير بعدما شاركه في تأليف أهم نصوصه ( الصناعي، المنظم، السياسي، في معنى النظام الصناعي...الخ)، سنة 1819 سيصدر كونت بالتعاون مع شارلي كونت وشارلي دينوير " الفصل العام بين الآراء والرغبات Séparation générale entre les opinions et les désirs" سنة بعد ذلك سيصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث sommaire appréciation sur l’ensemble du passé moderne". ستشكل سنة 1822 تاريخاً مهما في الحياة العلمية لكونت حيث سيصدر كونت " بيان حول الأعمال العلمية الضرورية من أجل إعادة تنظيم المجتمع prospectus des travaux scientifiques nécessaires pour réorganiser la société " قبل أن يصدر سنة 1824 النسق السياسي الوضعي système de politique positive، وهو العمل الذي سيعلن نهاية العلاقة بين كونت وسان سيمون، إذ بعدما باع الأول للثاني حقوق نشر النص، سيقوم الأخير بنشره في مؤلفه " عقيدة الصناعيين" دون أن يشير بالإسم إلى كونت صاحب أهم جزء في هذا النص، ما سيغضب كونت الذي أعلن حربا كلامية على رئيسه واصفا إياه بأبشع الأوصاف، حيث جعل منها " المتلاعب الفاسد " و وصف صداقته ب" الارتباط المضر " كما أن شبه تأثره به ب " التأثر المشؤوم Désastreuse influence ". سنة بعد ذلك سيصدر كونت " تأملات فلسفية حول العلوم والعلماء" و " تأملات حول السلطة الروحية"، ستكون سنة 1825، سنة أكبر خطأ ارتبكه كونت في حياته – حسب تعبيره- عندما سيتزوج كارولين ماسان caroline massine، العاهرة التي تزوجها بناء على حساب خاطئ كما يقول، بل إنه اعترف في أكثر من مناسبة أن " إنه أول خطأ خطير حقيقة ارتكبته في حياتي ". سيصاب كونت سنة 1826 بأزمة عقلية حادة بعد أول هروب لزوجته وبعد تعب عقلي كبير، ما سيؤدي إلى وضع بالمسشتفى، التي لم يغادره إلا بعد ثمانية أشهر، دون أي تحسن على مستوى حالته الصحية، ما سيدفعه مدة قصيرة بعد ذلك إلى محاولة الانتحار، غير أنه سرعان ما سيتجاوز الأمر بعدما فطن إلى ضرورة الالتزام بنظام فيزيقي وعقلي صارم من أجل تجنب هذه الحالة. سيتجدد نشاط كونت الفكر سنة 1929 بالعودة إلى دروس الفلسفة الوضعية التي سيصدر سنة بعد ذلك أو أجزاءها قبل أن يلحقها الباقي سنوات 1835 و1838 و1839 و1841 إلى غاية 1842.

يصف كونت سنة 1845 بالسنة التي لا مثيل لها، حيث أعلن لكلوتيلد دو فو Clotilde de Vaux بحبه لها، التي لم توافقه على دعوته، لتطلب منه أن يظلا صديقين، لأنها مشاعرها اتجاهه عاجزة عن أن تتجاوز حدود الصداقة، ولأن مصائب كونت لا تنتهي شاءت الأقدار أن تموت دو فو أمام كونت دون أن يستطيع القيام بأي شيء سوى التحول نحو جعلها ديناً حقيقياً Véritable Culte. في سنة 1847 أي سنة بعد وفاة دو فو سيعلن كونت عن ديانة الإنسانية التي أرادها دينا وضعيا بديلا عن كل أشكال الإيمان الأخرى التي تجعل الإنسان آخر الكائنات المفكر فيها.

ستشكل سنة 1857 آخر لحظات كونت حيث سيموت في الخامس من شهر شتنبر في باريس وسط تلامذته ومريده، مخلفاً ورائه إرثا علميا ما يزال إلى حدود اليوم مصدرا لكثير من الأعمال العلمية والفلسفية التي تؤسس عليه نظرتها للطبيعة وللعالم والإنسان.

  • مراحل تطور الفكر الكونتي

يمكن التمييز في الحياة الفكرية لكونت كما ذهب إلى ذلك رايمون آرون بين ثلاث محطات كبرى، تعكس التطور الذي عرفته فلسفة كونت وفكره، فأما المرحلة الأولى فهي تلك التي ابتدأت سنة 1820 وانتهت سنة 1826، حيث أصدر كونت " رأي موجز في كل الماضي الحديث، بالإضافة إلى " بيان الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع" وأخيرا تأملات فلسفية حول العلوم والعلماء سنة 1826. أما المرحلة الثانية فقد ارتبطت بإصدار كونت لدروس في الفلسفة الوضعية " 1830 إلى 1842"، أما آخر مراحل تطور الفكر الكونتي فقد انتهت حسب رايمون آرون بإصدار كونت ل" النسق السياسي الوضعي أو مدخل إلى السوسيولوجيا المؤسسة لديانة الإنسانية" ما بين سنتي 1851 و1854.

تعكس هذه المراحل حسب آرون تطوراً نوعياًَ في الفكر الكونتي، تدفع إلى التمييز بين شكلين من الإنتاجات الكونتية، أولى تنتمي إلى مرحلة الشباب؛ حيث التفكير في وضعية مجتمعه وفي الأسئلة الكبرى التي تواجه المجتمع الفرنسي وتواجه الإنسانية بشكل عام، وقد كان كونت في هذه المرحلة شبيها بجل سوسيولوجيي عصره.

انتهت قراءة كونت التطورية لواقع بداية القرن التاسع، بحقيقة صغيرة لكنها دالة على جميع المستويات، لقد لاحظ كونت أن نوعاً جديداً من المجتمعات يتشكل أمام عينيه، مقابل اتجاه آخر نحو الموت، فالمجتمع الثيولوجي العسكري، الذي ميز القرون الوسطى، والذي كانت تحتل فيه الكنسية الكاثوليكية وتعاليمها، والذي كانت تحتل فيه القوة العسكرية مركزاً مهماً في المجتمع، أصبح تنسحب تدريجيا من الحياة العامة، مقابل السماح لنوع آخر من المجتمعات بالظهور، فالمجتمع العلمي الصناعي؛ الذي ولد في نهاية القرن الماضي، استعاض عن الأنبياء ورجال الدين بالعلماء، إذ تحول المجتمع بعدما كان يعتمد في بناء أسسه الفكرية والأخلاقية على رجال الكنسية، نحو العلماء الذين أصبحوا المصدر الأول للأفكار والقيم، والورثة الشرعيون للسلطة الروحية بالمجتمع.

إن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من خلال قراءة الفكر الكونتي المرتبطة بالتفكير في هذه المرحلة هي أن حالة الفوضى واللانظام التي تعيش على واقعها المجتمعات الغربية، لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إصلاح اجتماعي يقوم على إصلاح فكري Réforme intellectuelle، فالثورة والعنف لا يمكن أبداً أن تخرج المجتمع من أزمته كما يقول كونت، بل إننا نحتاج إلى استدعاء مختلف العلوم، وبناء سياسة وضعية، وحدها القادرة على انتشال المجتمعات الغربية من حالة الغربة والفوضى التي تعرفها.

إن الأزمة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، والأمراض والاضطرابات التي تضرب المجتمعات الغربية، لا يمكن تفسيرها في نظر كونت إلا من خلال النظر إلى التناقض الموجود بين نظام ثيولوجي عسكري في طريقه نحو الزوال، ونظام علمي صناعي في طريقه نحو الولادة.

إن هذا التأويل الذي يقدمه كونت للأزمة التي تعيشها فرنسا و من خلالها كل المجتمعات الغربية، تكشف عن وجه آخر من كونت، هو كونت المصلح Réformateur، وليس كونت المذهبي الداعي للثورة كما الحال مع ماركس، أو المذهبي المدافع عن المؤسسات الحرة، مثلما هو الشأن مع مونتسكيو وتوكفيل، إن المذهب الوحيد الذي ينتصر له لحظة تفكيره في مصير أوروبا هو العلم الوضعي والعلم الاجتماعي. في هذا الإطار يرى كونت أن التناقض الذي تعرفه أوروبا بين هذين النموذجين لا يمكن تجاوزه إلا من خلال انتصار النموذج الذي يسميه كونت بالعلمي والصناعي، وهو انتصار حتمي، يمكن التسريع من وثيرته، تأخيره لكنه سيحصل في النهاية، أما وظيفة السوسيولوجيا فهي العمل على فهم هذا المستقبل الحتمي الضروري والذي لا يمكن تجنبه، على نحو يمكن من المساعدة على إتيان هذا الوضع الأساسي.

تتميز المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت كما قلنا سابقاً بإصدار دروس الفلسفة الوضعية، وهي مرحلة لم تتغير فيها الأفكار الكبرى لكونت، بقدر ما اتسع أفقها ومداها لتأخذ بعداً إنسانيا أشمل وأكبر. يسهل على غير الأوروبي كما يقول رايمون آرون أن يلاحظ التردد الذي طبع كونت عند حديثه عن مراحل تطور الفكر البشري، في إضفاء طابع كوني على مشروعه الفكري، فالتطور الذي عاشته وتعيشه أوروبا على مستوى حياتها الفكرية، يكاد يكون هو نفسه التطور الذي ستعرفه المجتمعات الإنسانية الأخرى آجلا أم عاجلا. ما يعني أن المرحلة الثانية من الحياة الفكرية لكونت لن تعرف تجديداً للإشكاليات التي فكر فيها، بقدر ما ستكون " دروس الفلسفة الوضعية " محاولة لتعميق أفكاره السابقة و" تطبيقاً لبرنامج وضع خطوطه الكبرى في مرحلة الشباب"1.

لقد كانت دروس الفلسفة الوضعية في الحياة الفكرية، فرصة لمراجعة كل العلوم والدفاع عن وتأكيد فكرة قانون الحالات الثلاث، وتصنيف العلوم. فبالنسبة لقانون الحالات الثلاث؛ يعتبر كونت أن الفكر الإنساني يخضع في تطوره لثلاث أطوار كبرى، أولى ثيولوجية؛ يفسر الفكر البشري من خلالها كل الوقائع من خلال إسنادها إلى كائنات وقوى شبيهة بالإنسان نفسه، وثانية يتجه فيها نحو كائنات مجردة مثل الطبيعة، أما الثالثة فهي المرحلة التي يقوم فيها الإنسان بملاحظة الظواهر وتحديد العلاقات الثابتة والدائمة التي تجمع بينها في لحظة معينة أو عبر الزمن، إن الفكر البشري في هذه المرحلة يتجه نحو البحث عن أسباب الأفعال والقوانين التي تنظمها.

إن الانتقال من المرحلة الثيولوجية إلى المرحلة الميتافيزيقية ثم إلى المرحلة الوضعية لا يتم بنفس الطريقة في كل المجالات الفكرية، أي أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في تجربة معرفية وإنسانية معينة لا يتم بالموازاة الانتقال الذي تعرفه مجالات أخرى، بل قد يسبق أحدها الآخر في الوصول إلى مرحلة معينة، كما قد تتأخر تجربة معينة قبل اللحاق بمثيلاتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتبر الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا أول أشكال المعرفة التي استقبلت الفكر الوضعي، بينما تأخر نفس الفكر في الوصول إلى مجالات المعرفة التي تهتم بظواهر مركبة، فكلما كانت المادة أي موضوع العلم بسيطة، كلما كان احتواءها وضعيا أسهل، بل إن هناك من الظواهر من يقدم نفسه بشكل مباشر للملاحظة، وبالتالي المقاربة الوضعية.

إن ترتيب الحالات الثلاث وتصنيف العلوم له غاية واحدة وهي الاستدلال على أن طريقة التفكير السائدة في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ستنتقل إلى مجال السياسة وستساهم في بناء علمي وضعي للمجتمع هو السوسيولوجيا. غير أن الغاية من هذا الترتيب لا تقف عند هذا الحد، أي ضرورة خلق علم جديد هو السوسولوجيا، وإنما تتجاوز ذلك إلى استبدال بعض المعطيات المنهجية كما فعلت البيولوجيا في وقت سابق، عندما كشفت على أن العلوم يجب أن تكون بالضرورة وأساساً، علوما تركيبية وليست علوماً تحليلية، فإن هذا القلب هو الذي سيؤسس لتصور السوسيولوجيا لوحدة التاريخ.

يحمل مفهومي التركيب والتحليل في الفكر الكونتي دلالات واسعة ومتعددة، إذ في الوقت الذي الذي تعتبر فيه علوم الطبيعة غير العضوية inorganique مثل الفيزياء والكيمياء، علوما تحليلية، بالمعنى الذي تتجه فيه هذه العلوم نحو إثبات القوانين الموجودة بين ظواهر معزولة بالضرورة. فإن البيولوجيا يستحيل أن تفسر عضوا أو وظيفة دون الانتباه إلى الكائن الحي بأكمله، فالفعل البيولوجي لا يستمد دلالته وبالتالي لا يمكن تفسيره إلا من خلال التنظيم العضوي الذي يحتويه، أما إذا ما حولنا عزله بشمل تعسفي واصطناعي من الجسد الذي يحتويه، فإننا لا يمكن أن نجد أنفسنا إلا أمام مادة ميتة، أما المادة الحية فإنها عامة وكلية.

إن هذه الفكرة الأخيرة هي التي سيحاول كونت نقلها إلى السوسيولوجيا، إذ من المستحيل أن نفهم ظاهرة اجتماعية معينة، إذا لم نقم بموضعتها في الكل الاجتماعي الذي يحتويها، لا يمكن أن نفهم مكانة الدين أو حالة الدولة في مجتمع معين، ما لم نقم بالنظر إلى هذا المجتمع في كليته. إن أولوية الكل على الجزء هذه التي يدافع عنها كونت، لا ترتبط فقط بحالة داخل لحظة معينة في التاريخ الإنساني، وإما ترتبط بالتاريخ الإنساني بأكمله. لا يمكن أن نفهم المجتمع الفرنسي في بداية القرن التاسع عشر، إذا لم نقم بموقعة هذه اللحظة في مستقبل التاريخ الفرنسي، كما أن الإصلاحRestauration لا يمكن أن يفهم إلا من خلال الثورة، والثورة لا يمكن أن تفهم بدورها إلا من خلال قرون النظام الملكي. كما أن أفول الفكر الثيولوجي والعسكري لا يمكن أن يفسر إلا من خلال البحث عن جذوره في القرون الماضية siècles écoulés، وبالمثل لا يمكن أن نفهم عنصرا في الكل الاجتماعي، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الكل بأكمله، كما لا يمكن أن نفهم لحظة من لحظات التطور التاريخي، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار التطور التاريخي بأكلمه.

يضع هذا النوع من القراءات المنطقية للواقع العقل العلمي أمام مجموعة من الصعوبات الكبرى، وهي نفسها الصعوبات التي واجهت كونت نفسه، خاصة في مسألة أولوية الكل على الجزء؛ فكلي نفهم مثلا لحظة من لحظات تطور المجتمع الفرنسي، علينا أن لا نعود فقط إلى مجمل تاريخ هذا البلد، وإنما يجب أن نرجع إلى تاريخ الإنسانية بأكمله، مادام كونت يقر بوحدة التاريخ الإنساني، ويجعل من السوسيولوجيا علما لتاريخ النوع البشري. لقد كان كونت في رده على هذه الصعوبات واضحاً ومنطقيا إلى أبعد الحدود، فبما أنه وضع التركيب في مرحلة أولى قبل التحليل، فإنه كان يعتبر أن العلم الذي يرغب في تأسيسه يسعى إلى دراسة تاريخ النوع الإنساني، وهو تاريخ واحد، وهذه الفكرة بالضبط هي ما ساعد كونت على تفسير وفهم الكثير من الوظائف الخاصة في الوجود البشري.

أما المرحلة الثالثة من حياة كونت الفكرية، والتي تأسست على " النسق السياسي الوضعي"، فقد حاول من خلاله أن يثبت من خلال نظرية في الطبيعة الإنسانية والطبيعة الاجتماعية وحدة التاريخ الإنساني، وقد حاول كونت أن يعطي بعداً فلسفيا لأطروحته هذه حول وحدة التاريخ الإنساني، فلكي يكون هذا الاخير واحداً، يجب أن يعترف كل واحد منا أن الإنسان سواء عبر العصور أو عبر المجتمعات يمتلك طبيعة معروفة ومحددة، كما أنه يجب على كل المجتمعات الإنسانية أن تتوفر داخلها على نظام أساسي يمكننا من خلاله معرفة وفهم التنوع الذي تعيشه التنظيمات الاجتماعية.

إن أهم فكرة يمكن استخلاصها من تجربة كونت الفكرية التي امتدت على أكثر من أربعين سنة، هو إيمان صاحبها واعتقاده في وحدة التاريخ الإنساني، الذي يخضع لقانون واحد، تنتقل بموجبه المجتمعات الإنسانية كلها من الحالة الثيولوجية العاطفية العسكرية، إلى الحالة الوضعية العلمية الصناعية. أما العلم الذي سيمكننا من فهم هذه القوانين في مرحلة أولى وسيساعدنا على إعادة النظام للمجتمع، وتنظيم عناصره، فهو السوسيولوجيا، باعتبارها أولا علما وضعيا تركيبيا يقوم على فكرة وحدة النوع البشري ووحدة تاريخه، علماً يهتم بالقضايا الكبرى والأسئلة الأساسية التي يواجهها المجتمع بل والإنسانية بشكل عام، أما التفاصيل فهي متروكة للتاريخ للبحث فيها وجمعها. وثانيا لأنها تمدنا بالأفكار والقيم التي يجب أن يتأسس عليها كل إصلاح اجتماعي.

هذا من جهة، من جهة أخرى يمكن القول أن الفلسفة الكونتية تتوزع بين ثلاثة موضوعات كبرى، هي

  1. أن المجتمع الصناعي الذي هو مجتمع أوربا الغربية، يعتبر مثالا لما ستصير عليه الإنسانية في المستقبل، فالتنظيم العلمي والصناعي للعمل الذي وصلت إليه أوروبا يعتبر في نظر كونت نموذجاً يجب أن تحاكيه باقي المجتمعات الأخرى، لأنه النموذج الذي أثبت نجاعته وقوته مقارنة مع باقي النماذج.

  2. البعد المزدوج لكونية الفكر العلمي، فالفكر الوضعي في الرياضيات والفيزياء أو في البيولوجية، له بعد كوني، فطريقة التفكير السائدة في هذه العلوم، صالحة لكل الأوضاع والمجتمعات الإنسانية، لهذا فالعلم الغربي أصبح علماً إنسانياً، ما ينطبق على العلوم التي تهتم بموضوعات غير عضوية يمكن أن يتسع ليصبح صالحاً من أجل دراسة الدين أو السياسة.

  3. أنه إذا كانت الطبيعة الإنسانية واحدة، وإذا كان النظام الاجتماعي واحدا، فكيف يمكن فهم الاختلاف والحفاظ على التنوع الذي نلاحظه في الوجود الإنساني.

بناء على ذلك يمكن القول أن الفكر الكونتي اتخذ ثلاثة أشكال كبرى أولها أن

  1. أن المجتمع الذي يتشكل في الغرب يعتبر اليوم نموذجيا، وعلى كل الإنسانية أن تحذو نفس الطريق التي اتبعها الغرب,

  2. أن تاريخ الإنسانية هو تاريخ الفكر الذي يتجه نحو الفكر الوضعي.

  3. أن تاريخ الإنسانية هو تطور وانفتاح الطبيعة البشرية

في معنى المجتمع الصناعي في الفكر الكونتي:

يحتل مفهوم المجتمع الصناعي مكانة مركزية في الفكر الكونتي، بل يمكن القول إنه من المفاهيم والقضايا القليلة جداً التي استنفذت من هذا الرجل وقتا طويلا وفكراً أطول، غير أن كونت لم يكن غريبا في هذا الشأن عن المرحلة التي عاش فيها هذا الأخير، إذ أن القول بنهاية اللاهوت فكرة كانت متداولة في هذه الفترة بشكل كبير جداً، فقد عبر عنها نيتشه بموت الله واتخذت نفس الفكرة مع الفلسفة الوجودية والفلسفة المادية ومع الماركسية معاني وتعبيرات كثيرة جداً.

إن الحدث الجديد الذي عاشته أوروبا والذي أثار انتباه كل الملاحظين عند نهاية القرن التاسع عشر هو الصناعة، حيث أجمع الكل على أن هناك شيئا ما قد حدث أو في طريقه نحو الولادة، لكن ماهي خصوصيات هذا الحدث؟ وماهي مظاهره ومقوماته؟ بل وما هي آثاره وتناقضاته التي يمكن أن نقف عندها كلما تحدثنا عن الصناعة او المجتمع الصناعي؟

يتفق معظم المهتمين بمفهوم المجتمع الصناعي، على أن الخصائص الكبرى التي يمكن ملاحظتها تتوزع عند ست أساسية وهي:

  1. تقوم الصناعة على تنظيم علمي للعمل، بعدما كان هذا الأخير يتأسس على الأعراف كما أن الإنتاج أصبح يجند كل الموارد.

  2. أدى التنظيم العلمي للعمل إلى الدفع بالإنسان نحو تطوير موارده

  3. الانتاج الصناعي أضبح يتطلب تجميعاً للعمال في مصانع ومعامل، وهي ظاهرة اجتماعية جديدة تمثلت في ظهور طبقة جديدة هي العمال.

  4. تمركز العمال في وحدات صناعية، أنتجت تناقضاً ظاهراًَ مرة ما وخفيا مرة أخرى بين العمال وأرباب العمل، بين البروليتاريا والمقاولين الرأسماليين.

  5. أفرز التنظيم العلمي للعمل الثروة، لكنه أنتج بالمقابل أزمات كثيرة، فوفرة الإنتاج أدت إلى خلق طبقات فقيرة في الأوساط الهشة، إذ بقدر ما هنالك من ملايين من الأشخاص يعانون الفقر، هناك مواد لا تجد من يشتريها.

  6. النظام الاقتصادي المرتبط بالتنظيم الصناعي والعلمي للعمل، تميز بحرية المبادلات وبالبحث عن الربح من طرف المقاولين والتجار، وقد اعتبر بعض المنظرين أن الشرط الأساسي لنمو الثروة هو البحث عن الربح والمنافسة، وأنه كلما تدخلت الدولة في الشؤون الاقتصادية كلما تطور الإنتاج وتطورت الثروة بسرعة.

من داخل كل هذه التوصيفات والتأويلات التي ارتبطت بالمجتمع الصناعي، يقف كونت عند الثلاث خصائص الأولى، تحدد الصناعة بالتنظيم العلمي للعمل، وهذا ما يؤدي إلى النمو المتواصل للثروة وتمركز العمال في المعامل، وهذه الأخيرة تقابل بتمركز الرساميل ووسائل الإنتاج في أيادي محدودة. أما الخاصية الرابعة أي التعارض بين العمال والمقاولين، فإنها في نظره خاصية ثانوية secondaire، إنها نتيجة لسوء تنظيم المجتمع الصناعي ويمكن تصحيحها من خلال إصلاحات. كما أن الأزمات ليست في نظره سوى ظواهر عابرة وسطحية، في الوقت الذي تعتبر فيه الليبرالية أن هذه الأزمات لا تنتمي للمجتمع الحديث، إنها ظواهر مرضية، كما أن لحظة الأزمة لا يمكن أن تكون ثابتة إلا إذا كانت مؤسسة على لعبة المنافسة الحرة. أما بالنسبة للاشتراكيين فإن الخاصية الرابعة هي ما تميز المجتمع الصناعي، إن الفكر الاشتراكي باعتباره فكر الاقتصاديين المتشائمين الذين برزوا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، تطور من خلال التركيز على عملية الصراع بين العمال وأرباب العمل وعلى تواتر الأزمات باعتبارها رجات وهزات لا يمكن تجنبها أبداً بفعل الفوضى التي تخلقها الرأسمالية؛ انطلاقاًَ من هاتين الخاصيتين عرف ماركس المجتمع الصناعي.

لم يجد التأويل الكونتي للمجتمع الصناعي حديث النشأة نفسه بين أي من التأويلات المتعددة التي ارتبطت بهذا الأخير، فالنمو الملاحظ في الثروات وتطبيق العلم في الصناعة، ونمو التبادل الحر، كلها ظواهر وجد فيها الليبراليون والاشتراكيون عيوبا ومقومات كثيرة، لم يقبل كونت كل ما عابه الاشتراكيون على هذا المجتمع، كما لم يستسلم لكل المزايا التي وقف عندها الليبراليون في المجتمع الصناعي. لقد حاول كونت الاقتراب من الاقتصاديين الليبراليين من خلال البحث في القيم، والعمل بشكل مجرد وجاد على تحديد نسق وجود الميتافيزيقيين ، فالفكر الميتافيزيقي في نظره فكر مجرد، فكر مفاهيم، إن فكر اقتصادي عصره.


1 Raymond, Aron, Les Étapes de la Penses Sociologique, Édition Gallimard, 1967, p.81.

مواضيع سابقة
مقالات اجتماعية

شارك مع اصدقائك

تعليقاتكم
اشعارات
اهلا بك اخى الكريم فى مدونة مقالات .
ان كنت من المهتمين بكل جديد حول ما نقدمه من معلومات موثوقة يمكنك الاشترك فى مدونة مقالات حتى تكون اول المستفيدين من مقالاتنا.
=================================
وان كان لديك اى اسئله او اقتراحات يمكنك التواصل معنا عبر مواقع التواصل الاجتماعى اسفل الرساله وسوف نقوم بالرد فى اسرع وقت .
شكرا على المتابعه .

حسنا