إميل دوركايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة - مقالات

إميل دوركايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة

 د. زكرياء الإبراهيمي

ملخص:

تحاول هذه الدراسة الوقوف عند ملامح المجتمع الحديث كما رسمها دوركايم في مجموع أعماله الكبرى، وفي الكثير من الدراسات التي قدمها هذا الأخير في فترات مختلفة من تطور حياته الفكرية والعلمية والإيديولوجية كذلك، كما أنها تسعى إلى موقعة تصور دوركايم لنفس المجتمع بين مجموع التصورات التي تشكلت حول الحداثة والمجتمعات الحديثة في نفس الفترة، وهو ما يمثل في نظرنا محاولة لتجاوز القراءات الكلاسيكية لمتن الرجل، التي حصرته وحاصرته في كثير من الأحيان في نظريته للمعرفة التي وإن كنا مقتنعين بأهميتها في اقتحام المتن الدوركايمي، إلا أننا نعتبرها جزءا من المشروع العلمي والمجتمعي لدوركايم، وليس كل المشروع الذي أنجزه هذا الأخير.

إن الفكرة الأساسية لهذه الدراسة تقوم على أن المجتمع الحديث والحداثة من حيث هي أفكار ومفاهيم وتصورات اجتماعية، توجد في كل المتن الدوركايمي حتى المعرفي منه، رغم أنها تقدم نفسها في تقسيم العمل الاجتماعي والانتحار والأشكال الأولية للحياة الدينية وأعمال دوركايم المتعددة حول التربية، بشكل جلي وواضح، لذلك أمكننا القول أن المجتمع الحديث بالنسبة لدوركايم هو ذلك المجتمع الذي تتمايز بنياته وأفعال الأفراد ومعتقداتهم فيه، إنه المجتمع الذي يقوم على تقسيم كثيف وكبير للعمل الاجتماعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، في السياسة والاقتصاد والثقافة، في المعامل والمصانع ومؤسسات الدولة، إنه المجتمع الذي تضعف فيه العلاقات الأولية مقابل انتعاش كبير للعلاقات الثانوية واللاشخصانية بالأساس. إنه كذلك المجتمع الذي تتحول فيه التربية إلى شأن عام وتستمحل فيه المدرسة مكان الأسرة، وتصبح فيه الدولة المسئول الأول عن عملية التنشئة الاجتماعية. إن المجتمع الحديث بالنسبة لدوركايم هو المجتمع الذي تقوم فيه الأخلاق والمعاني الأخلاقية على قيم لائكية بحيث تكون قادرة على استيعاب الجميع خاصة وأن كثافة المجتمع الحديث من حيث تنوع الأعراق والديانات والثقافات تجعل من الدين والأسرة كمؤسسات تربوية مؤسسات فاشلة بل مانعة للتربية. أما البعد الثالث في المجتمع الحديث كما تمثله دوركايم، فيظهر في خروج الدين من المجال العمومي، بل وانسحابه من المجتمع بشكل عام، بسبب تقدم المعرفة العلمية التي ستصبح السجل الأول لكل المعارف والمعاني التي يستعملها الأفراد لفهم العالم وتحليله.

على سبيل التقديم

إذا كانت أعمال دوركايم الإبيستمولوجية قد قتلت درساً ونقداً، وإذا كان بعض الباحثين في العلم الاجتماعي لا يناقشون الإرث الدوركايمي، إلا من باب نظريته في المعرفة ومن زاوية تصوره للسوسيولوجيا كعلم، والممارسة السوسيولوجية باعتبارها تقليداً علمياً تم تجاوزه أو يجب تجاوزه من حيث أطروحاته الأساسية، فإن بعض أفكاره وتصوراته حول المجتمعات الحديثة وعدد من القضايا الاجتماعية الكبرى التي تحتل حيزاً مهماً في النقاش العلمي والسياسي المعاصر مثل " الدين، التربية، التمايز الاجتماعي، الصراع، الاشتراكية، الدولة، الأخلاق، الأسرة...الخ)، لم تنل حقها بالشكل الكافي من نفس الفعل، إلا من قبل فئة محدودة من الباحثين في علم الاجتماع كرايمون آرون1 ودانيلو مارتيشولي2 وهابرماس3 وآلان تورين4 ورايمون بودون5...الخ. وهذا ما يعني بشكل أو بآخر أن الحديث المتداول عن تجاوز السوسيولوجيا المعاصرة، للسوسيولوجيا الدوركايمية في صيغتها المعرفية6 ( الإثنوميتودولوجيا، الفينومينولوجيا الاجتماعية، الفردانية المنهجية، الوظيفية النسقية، البنيوية التكوينية...الخ)، لا يمكن أن يحجب عنا راهنية التصور الدوركايمي للمجتمع الحديث وللحداثة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، سواء من حيث بنية العلاقات والمؤسسات الاجتماعية التي تؤسسها، أو من حيث مكانة الفرد والفعل الفردي داخلها، أو من حيث وجود الدين والعمل والتربية والقيم والأسرة والدولة والقانون.. فيها كقيم حديثة أو كبنيات تختلف من حيث مساهمتها في تشكل المجتمع الحديث ووجوده، أو حتى من حيث الأمراض والإختلالات الاجتماعية التي أنتجتها أو أحدثتها في هذا الأخير وفي كل مؤسساته وبنياته الاجتماعية على اختلافها وتباين مستويات فعلها.

إن القراءة التي نقدم في هذه الدراسة للسوسيولوجيا الدوركايمية، تتأسس أولاً على تجاوز الأسئلة الكلاسيكية التي وجهت إلى أعمال دوركايم والتي لم تتعدى في أغلب الأحيان قواعد المنهج السوسيولوجي والانتحار، حتى عند قراءتها لباقي المتن الدوركايمي خاصة المرتبط بالدين والتربية وتقسيم العمل الاجتماعي. وتتضح في مرحلة ثانية عند نقطة غاية في الأهمية داخل المجال المعرفي المعاصر؛ وهي أن تجربة ومفهوم الحداثة ظاهرة لا تخص المعرفة الفلسفية وحدها، كما أن مكانها الطبيعي لا يقف عند حدود العقل أو مجال الوعي كما دافعت عن ذلك الكثير من الاتجاهات والمتون الفلسفية الحديثة والمعاصرة7، بل إنها ظاهرة اجتماعية كلية تعني المجتمع أولا وقبل كل شيء، وتبدو في مختلف تضاعيف الحياة الاجتماعية؛ تظهر في أنماط الإنتاج التي يعتمدها المجتمع، وفي الوسائل التي تقوم عليها هذه الأنماط، وتظهر في نوع العلاقات والتضامنات التي تنتجها هذه الوسائل، وفي أشكال الحكم والسلطة والتواصل والتمايز والصراع والتوافق والتحرر والحراك التي تتشكل وتخلق في الفضاء العمومي، وتبدو في نفس الوقت في العلاقات الأسرية والزواجية، في أنماط التدين، وأشكال التربية، في نوع الأخلاق وفي طبيعة المدرسة والفن والموسيقى في الأدب والشعر في العمارة والبناء في المطبخ وأنواع الطهي8....الخ، التي تنتهي إليها وتؤسسها في نفس الوقت، تبدو في أشكال المعرفة والوعي والفعل التي يمتلكها الأفراد أو يستعملونها كأدوات للوجود والعيش.

إن المعنى السوسيولوجي للحداثة يتجاوز اعتبارها مجرد حالة وعي يقف عند حدود تأمل العالم وفهمه، أو كما يقول غيرتز - في حديثه عن الثقافة – مجرد أشياء تحدث في الرأس، إنها أكثر من ذلك أشياء تتضمن الرموز والكلمات والآلات والأفعال والأحداث والمعاني والحركات والمؤسسات، إنها تحوي نظرة معينة للزمن، وتصرفاً محدداً فيه، تمثلا معيناًَ للمجال واستعمالا خاصاً له، معرفة محددة بالمؤسسات والتنظيمات والبنيات الاجتماعية، واستهلاك متميز لها...الخ.

من الغني عن التوضيح أن الاهتمام بـأطروحة إميل دروكايم في الحداثة والمجتمع الحديث، لا يجب أن يخفي عنا في الحقيقة واقعين اثنين، أول مهم هو موقع السوسيولوجيا في المجتمعات الحديثة والدور الذي يمكن أن تلعبه في تحليل وتفسير وصياغة المجتمع الحديث وبناءه، لاسيما وأن تاريخ المعرفة الإنسانية سواء كما صاغه كونت9، أو كما تم تقديمه في العديد من المتون التي قاربت شروط ولادة وتشكل العلم الاجتماعي، مقارنة مع علوم أخرى قريبة منه، خاصة الأنتربولوجيا التي تشكلت من أجل معرفة مجتمعات أخرى اعتبرت من طرف الكثير من الباحثين بعيدة كل البعد عن المجتمع والزمن الحديثين10. وثاني أهم ويتعلق بغياب مشروع كامل أو لنقل صورة مكتملة للحداثة داخل الفكر الدوركايمي كما يذهب إلى ذلك دانيلو مارتشولي Martuccelli ، وبالتالي فإن العمل الذي سنقوم به في هذا السياق هو محاولة لتجميع الصورة المتفرقة للحداثة في أعمال دوركايم الكثيرة والمختلفة من حيث موضوعاتها وسياقات تشكلها. فكيف يتصور إميل دوركايم الحداثة إذن؟ وماهي مقومات مجتمع الحداثة أو المجتمع الحديث كما تمثله هذا الأخير.

أولا: الحداثة والسوسيولوجيا: جدلية التنظير والتأسيس.

من الصعب جداً عندما يتعلق الأمر بالحداثة وبشكل أدق علاقة الحداثة بالعلم الاجتماعي، إنكار النقاش المعرفي الذي ارتبط بظهور السوسيولوجيا كعلم يهتم بدراسة المجتمعات الغربية الحديثة، والأنتربولوجيا من حيث هي اتجاه معرفي يهتم بدراسة المجتمعات المسماة بدائية أو متوحشة، إن هذا الفصل بين موضوع المعرفتين السوسيولوجية والأنتربولوجية، ظهر بشكل أولي عند فرديناند تونيس Tönnies، عندما قام هذا الأخير بالتمييز بين الجماعة Communauté والمجتمع Société، وعند دوركايم نفسه في تقسيم العمل الاجتماعي De la division de travail sociale، أو في الأشكال الأولية للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuses، وفي بعض الأشكال البدائية للتصنيف De quelques formes primitives de classification، كما ظهر عند ماكس فيبر في الاقتصاد والمجتمع، وفي الأسس العقلانية للموسيقى، وعند طوكفيل في الديموقراطية في أمريكا...الخ وبدا عند سبنسر وباريتو وماركس بأشكال مختلفة.

إن الفكرة التي انتهت إليها المتون السوسيولوجية الكلاسيكية - والتي اكتملت بشكل واضح عند بداية تشكل الأنتربولوجيا كمعرفة بالمجتمعات غير الأوربية-، تقوم على أن دراسة المجتمعات المسماة بدائية11 تحتاج إلى معرفة علمية مختلفة ومتميزة عن تلك التي يجب استخدامها في فهم وتحليل المجتمعات التي وصلت بنياتها المجتمعية إلى أشد مستويات التمايز والاختلاف12، بفعل مسار طويل من التغير الذي لم يتوقف حتى بعد ظهور السوسيولوجيا13، بعد أن كان حافزاً أساسيا لوجودها؛ إما من أجل تفسيره والتحكم فيه وضبطه وكبحه، وإما لغاية تغذيته وتعزيزه وتشجيعه14.

لقد عبر كونت عن هذا الموقف بوضوح لا غموض بعده، عندما اعتبر في مخطط الأعمال العلمية الضرورية من أجل إعادة تنظيم المجتمع؛ أن الحالة الراهنة التي تعيشها المجتمعات الغربية يمكن تلخيصها في وجود " نسق اجتماعي يغلق وآخر يقترب من الوصول إلى النضج ويدنو بناءه من التشكل...وانطلاقاً من ذلك يمكن القول أن هناك حركتين اثنتين تفعلان في المجتمع، الأولى هي فقدان النظام Désorganisation، والثانية هي إعادة التنظيم Réorganisation، فأما الأولى فتبدو في الفوضى الأخلاقية والسياسية التي يبدو أنها تقود هذه المجتمعات نحو الزوال الحتمي، أما الثانية فإنها تقود لا محالة نحو حالة اكتمال النوع البشري ووصوله إلى الحالة الأكثر توافقاً مع طبيعته ... إن تجاور هاتين الحالتين المتناقضتين هو الأزمة الكبرى التي تعاني منها المجتمعات الأكثر تحضراً"15. أما المجتمعات الأقل تحضراً والتي يدرج على تسميتها بالمجتمعات البدائية أو المتوحشة، فإنها المجتمعات التي لم تصل بعد إلى هذه المرحلة من التطور التي تُستفز فيها كل البنيات الاجتماعية سواء للوصول إلى المرحلة العلمية الوضعية، أو للوصول إلى حالة التفكك هذه التي تعيشها أوروبا المتحضرة16 والتي يسميها كونت بالفوضى أواللاتنظيم، وبإعادة التنظيم.

في نفس السياق لم يكن صعباً على كونت وهو يكتب قانون الحالات الثلاث، باعتباره تعبيراً صريحاً عن تطور الفكر الإنساني، أن يعدد خصائص المجتمع الحديث مقارنة مع غيره من المجتمعات الأخرى، خاصة تلك التي ترتبط بنمط الوعي والتفكير الحديثين، أن يجعل من الحداثة صفة للمجتمعات الغربية، فهو يقدم الحداثة كما لو أنها حالة غربية عندما يكرر غير ما مرة في كتاباته الكثيرة، عبارات من قبيل : " حضارتنا الحديثة، نحن مجتمعات الحداثة، نحن الحداثيون والحداثيون الغربيون....الخ".

إن أهم خلاصة يمكن أن ننتهي إليها عندما يتعلق الأمر بمفهوم الحداثة في صيغته الكونتية، من حيث هي لحظة ولادة وتشكل الفكر السوسيولوجي في صيغته الأولى والأولية، هو أن الحداثة لا تعني الزمن فقط، أي أنها لا تتحدد بالانتماء إلى الزمن الراهن أو المجتمعات المعاصرة، بقدر ما تعني، حالة فكر تتميز بسيادة العلم وهيمنة التفسير الوضعي على الفكر الإنساني كلما اتجه الإنسان نحو فهم العالم وتفسير ظواهره وأفعاله17، لاسيما وأن تاريخ المجتمعات وتاريخ الفكر غير منفصلين ولا يتميز الواحد منهما عن الآخر.

إن الحداثة بالنسبة لكونت لا تعني فقط لحظة استعمال العلم في فهم العالم والنظر إلى الكون في كل مستويات تشكله وتكوينه، ولكنها تعني كذلك اللحظة التي تم من خلالها الاعتراف بوحدة النوع البشري من خلال الاعتراف والإيمان بوحدة التاريخ الإنساني، فالحداثة حالة لا تخص مجالا خاصاً في الحياة الاجتماعية دون أخرى، كما أنها كما يقول هابرماس في الخطاب الفلسفي للحداثة مشروع لم يكتمل بعد18، ولن يكتمل أبداً مادام أن الحداثة سيرورة لا تسير عناصرها بنفس السرعة ولا تحتكم لنفس المنطق، فالحديث Moderne في الفن قد لا يكون كذلك في السياسة، والحديث Moderne في الاقتصاد قد لا يكون هو نفسه في وسائل الاتصال والتواصل وهكذا دواليك، إن عدم اكتمال الحداثة باعتبارها مشروعاً إنسانيا، هو ربما ما دفع آلان تورين إلى القول عندما تحدث في نقد الحداثة عن ماركس باعتباره " أول أكبر مثقف مابعد حداثي... لأنه اعتبر التقدم مساراً لتحرر الطبيعة، وليس – فقط - كتحقق لتمثل معين للإنسان"19. بل إنها هي نفسها هي التي دفعت رايمون آرون عند كتابته لتاريخ الفكر السوسيولوجي إلى الجمع بين ماركس وكونت، رغم اختلاف النسق والمشروع الفكري والعلمي لكل واحد منهما، عندما قال أن ما يجمع الرجلين: ليس فقط رغبة كل واحد منهما في تأسيس علم جديد قادر على فهم وتفسير وإصلاح المجتمع بالنسبة للثاني، أو علم خليق بتغيير المجتمع الذي لم يعمل المهتمون به إلى حدود اليوم إلا على تفسيره، وإنما لأن كل واحد منهما انتهى إلا أن اللحظة التاريخية التي تعيشها المجتمعات الغربية تتميز بشكل أساسي بموت مجتمع وولادة آخر جديد، بنهاية تنظيم اجتماعي وبداية تشكل الآخر، لقد كان كونت يعتقد أن اللحظة التي تعيشها أوروبا اليوم تعرف بداية أفول المجتمع الثيولوجي العسكري، الذي ميز القرون الوسطى، والذي كانت تحتل فيه الكنسية الكاثوليكية وتعاليمها، والقوة العسكرية موقعاً مركزياً في المجتمع، أصبح ينسحب تدريجيا من الحياة العامة، مقابل السماح لنوع آخر من المجتمعات بالظهور، إنه المجتمع العلمي الصناعي؛ الذي ولد في نهاية القرن الماضي، واستعاض عن الأنبياء ورجال الدين بالعلماء، حيث تحول المجتمع بعدما كان يعتمد في بناء أسسه الفكرية والأخلاقية على رجال الكنسية، نحو العلماء الذين أصبحوا المصدر الأول للأفكار والقيم والمعرفة، والورثة الشرعيون للسلطة الروحية بالمجتمع. إن الخلاصة التي انتهى إليها كونت هي نفسها النهاية التي يرى آرون أن ماركس انطلق منها في تحليله لواقع المجتمعات الغربية وخاصة انجلترا، وهو الأمر الذي عبر عنه ماركس بشكل واضح في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب الرأسمال قائلا " إن عملية التحول الاجتماعي في إنجلترا يمكن لمسها لمس اليد"، إن التحول الذي يتحدث عنه هاهنا صاحب الرأسمال، ليس إلا تحولا في أنماط الإنتاج، خاصة وأن نمط الإنتاج يعادل من حيث وجوده شكل ونمط وجود المجتمع بشكل عام، أي التحول من نمط الإنتاج الفيودالي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي.

إن ما يقال على كونت وعلى ماركس باعتبارهما مدخلين للتفكير السوسيولوجي في الحداثة، يمكن إسقاطه على أعمال ألكسيس دي توكفيل خاصة في "الديمقراطية في أمريكا"، ذلك أن اهتمام كونت بحالة الفكر السائدة في عصره ومعها طبيعة التنظيم الجديد للعمل القائم على العلم وما انتهى إليه الفكر الوضعي، واتجاه ماركس نحو تحليل تغير أنماط الإنتاج الرأسمالي للعمل وللمجتمع والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، لا ولم يوازيه من حيث الأهمية عندما يتعلق الأمر بالبعد السوسيولوجي للحداثة، غير اهتمام دي طوكفيل بالديمقراطية، باعتبارها المظهر السياسي للمجتمع الحديث، خاصة وأن الفرق بين المجتمعات الحديثة وغيرها من المجتمعات الإنسانية الأخرى سواء سميت بالمتخلفة أو المتأخرة أو السائرة في طريق النمو أو التقليدية، لا يقف فقط عند شكل الوعي أو الفهم السائد في هذه المجتمعات، كما لا يوجد في شكل نظامها الاقتصادي، وإنما كذلك في نوع تدبيرها السياسي، فالاقتراب من الحداثة والمجتمعات الحديثة كما اتجهت إلى ذلك أعمال دي توكفيل، هو اقتراب واتجاه نحو الديمقراطية من حيث هي نظام وفلسفة في تدبير الشأن العمومي والشرط الإنساني بشكل عام .

لا يمكن في الحقيقة الحديث عن الحداثة أو الإشارة إليها دون الانتباه إلى ماكس فيبر الذي يمكن القول أن فكرة الحداثة في متنه كانت الأكثر استهلاك مقارنة مع مختلف مؤسسي الفكر السوسيولوجي الذي سبقوا من حيث أعمالهم أو جايلوا فيبر، ولعل ما شجع الباحثين أكثر على الاهتمام بمساهمات فيبر في التأسيس السوسيولوجي للحداثة هو الاشتغال الكبير لفيبر على مسألة العقلنة والعقلانية، خاصة وأن المشروع الفيبري كان يقوم في معظمه على الدور الذي لعبته عملية العقلنة Rationalisation في التطور التاريخي للغرب، إلى درجة يمكن القول معها أن تطور المجتمعات الغربية تأسس على قاعدة عامة في السياسة20 والاجتماع21، في تدبير الحياة الدينية22، وفي تطور الاستعمال الاجتماعي للمجال23...الخ.

إن أهم فكرة يمكن الانتهاء إليها إذن عند الانتباه إلى مسألة الحداثة في المتون الكلاسيكية داخل الفكر السوسيولوجي، أي عند محاولة التأصيل السوسيولوجي للحداثة، هو أن هذه الأخير بما هي ظاهرة أو حالة état اجتماعية كما يذهب إلى ذلك دانيلو مارتشيلو Danilo, Martuccelli، لا تُختزل فقط في الوجود الحاضر، كما إنها ليست انشغالا بمعرفة ماهية العالم وحسب، بل إنها تتجاوز ذلك، إلى فعل أكبر وأعمق، يرتبط كما تقول ليندا رولو Linda Rouleau: إما بمحاولة فهم تطور المجتمعات التي تعيش التحول عبر التاريخ من خلال الوقوف على لحظات القطيعة التي عاشتها هذه المجتمعات من حيث مظاهرها وعواملها " الماضي: التقليد"، الحاضر " الحداثة Modernité، الحداثة الجديدة Néomodernité"، المستقبل " ما بعد الحداثة Poste Modernité، الحداثة المتقدمة Modernité Avancé ، الحداثة العليا Haut Modernité". أو من خلال محاولة فهم ما يميز أنماط معرفة العالم والمجتمعات عبر الزمن، في هذا الحالة يتعلق الأمر بمحاولة فهم ما يميز معرفة المجتمعات الإنسانية، وفي هذه الحالة تكون وظيفة السوسيولوجيا هي رصد الخصائص العامة التي تميز علمية إنتاج المعارف ومقارنتها مراحل تاريخية معينة، ويمكن القول على سبيل المثال لا الحصر في هذا النوع من الأوضاع، أن المعارف الحديثة تقوم على الوقائع الإمبريقية الخالصة، وتتجه كما انتهى إلى ذلك دوركايم عندما يتعلق الأمر بالمجتمع إلى أن الأفعال الاجتماعية ليست إلا أشياء، في المقابل يعتبراً تقليديا كل تصور أو تمثل للعالم وللمجتمع، يقوم استدعاء المعتقدات الدينية والقيم والأعراف والأخلاق ...القبلية، في فهم الوعي بالعالم والنظر إليه24.

إن النظر في بعض أفكار ونتائج الأنساق والمتون السوسيولوجية التي ذكرناها سابقاً لحظة تفكيرها في الحداثة، يعكس في الواقع وجاهة الوصف الذي قدمته ليندا رولو لسوسيولوجيا الحداثة، حيث يبدو بوضوح أن الحداثة لا تقدم نفسها أو بالأحرى لم يتم تمثلها من طرف كونت وماركس وفيبر وتوكفيل وسبنسر، إلا باعتبارها نتيجة لمسار طويل من التحول عاشته المجتمعات الغربية بشكل أساسي، ظهرت فيه على شكل انتقال من حالة فكر إلى أخرى بالنسبة لكونت، ومن نمط إنتاج إلى آخر عند ماركس، ومن وضعية التجانس Homogénéité إلى حالة اللاتجانس Hétérogénéité بالنسبة لسبنسر، ومن غياب العقلانية أو انحصارها إلى هيمنتها وسيادتها عند فيبر، ومن تقسيم بسيط ومحدود للعمل إلى تقسيم كثيف ودقيق للعمل ومع كل ما يؤسسه من أفعال وضوابط...الخ. غير أن وجاهة الرأي الذي قدمته رولو في هذا الإطار، والذي تتقاسمه مع عدد كبير من مؤرخي الفكر السوسيولوجي، سرعان ما يجد نفسه أمام سؤال مركزي، يرتبط بانفصال الواقعين الذين تحدثت عنهما هذه الأخير، أي انفصال عملية التفكير في الحداثة داخل العلوم الاجتماعية، بين تيارين، ذلك أننا نعتقد أن اهتمام السوسيولوجيا بالحداثة بما هي منطق تاريخي وقانون إنساني " أي الانتقال والتقدم من مرحلة إلى أخرى "، لم يتم بانفصال على حالات الفكر والوعي والمعرفة التي ترتبط بكل مرحلة أو حالة من لحظات التطور ومراحله، فقانون الحالات الثلاث عند كونت كان يعكس مراحل لتطور المجتمع وتطور الفكر في نفس الوقت، ونفس الشيء بالنسبة لفيبر مثلا في كتابه المدينة، إذ أن هذا الأخير لم يكتفي بتقديم تصوره لمراحل وأشكال تطور التنظيم الاجتماعي بالمدن وقوانينه، بل حتى حالة الفكر التي ارتبطت بكل مرحلة ولحظة من لحظات المدينة، ما يعني أن عملية تطور وتقدم وتحول البنيات الاجتماعية تتم دائماً بالموازاة مع نفس العملية عندما يتعلق الأمر بالمعرفة والوعي بالعالم والمجتمع.



ثانياً: فكرة الحداثة في المتن الدوركايمي

  1. تقسيم العمل الاجتماعي أول مظاهر الحداثة الاجتماعية وأسسها.

يعتبر دانيلو مارتيشولي Danilo Martuccilo أن مفهوم الحداثة في السوسيولوجيا الدوركايمية يخترق جل الأعمال التي كتبها دروكايم حول المجتمع الحديث، فهو لم يخصص داخل متنه السوسيولوجي نصاً يرصد فيها أوليات المجتمع الحديث ومظاهره، وإنما جعل في كل متنه لحظات متفرقة تعين بينة للمجتمع الحديث هنا، وأخرى هناك، لذلك فالانتقال من تقسيم العمل إلى الدين إلى التربية إلى الانتحار إلى الأنوميا، لم يكن في الحقيقة إلا اعتقادا من دوركايم في أن الحداثة لا تقوم إلا على هذه العناصر، رغم أنها لا تلد هذه الظواهر وفقط.

إن البحث عن مفهوم المجتمع الحديث وعن الحداثة في السوسيولوجيا الدوركايمية، مهمة تركيبية لا تتم ولن تتم إلا من خلال عبور كل أبواب المتن الدوركايمي وتركيبها في نفس الوقت، ونقصد في هذا السياق، ضرورة الرجوع إلى تقسيم العمل الاجتماعي، الانتحار، الأشكال الأولية للحياة الدينية، والتربية الأخلاقية، بالإضافة إلى عدد كبير من النصوص التي كتبت على هامش هذه النصوص المؤسسة لفكرة المجتمع الحديث عند دوركايم، ليس فقط لأن كل واحد منها يحيل على بنية أو مظهر من تجليات الحداثة وبنياتها الاجتماعية، وإنما لأنها تكشف عن جزء من تصور دوركايم للمجتمع الحديث، وتحيل في نفس الوقت على بعد أو عناصر أخرى لنفس المفهوم.

من الغني عن البيان أن فكرة المجتمع الحديث في السوسيولوجيا الدوركايمية، تقوم على اقتناع صاحب " في تقسيم العمل الاجتماعي " مثله مثل كل مؤسسي الفكر السوسيولوجي خاصة كارل ماركس وأوكست كونت25؛ بأن المجتمعات الغربية بشكل عام تعيش مرحلة انتقالية بين نموذجين من الوجود الاجتماعي، يختلف كل واحد منهما عن الآخر بشكل كلي، إذ كانا يعتقدان أن مظاهر المجتمع الحديث تعلن ميلاد مجتمع وأفول الآخر، وإن اختلافاً في شكل ومعنى المجتمع الذي يتشكل والمجتمع الذي يموت، فإن دوركايم اعتبر هو الآخر أن أهم ما يميز المجتمعات الراهنة، هو تراجع الأخلاق التقليدية واحتراقها، دون وجود أخرى تعوضها أو تأخذ مكانها، وهذا ما يميز في الحقيقة تصور دوركايم للمجتمع الحديث مقارنة مع كونت؛ الذي ألح على أن موت الفكر الثيولوجي والمجتمع العسكري يتم في ظل ولادة الفكر الوضعي والمجتمع الصناعي، فانهيار الأول يقوم على تشكل الثاني وبروزه، وهي نفس الفكرة تقريبا التي يدافع عنها ماركس الذي كان يرى في ولادة المجتمع الرأسمالي سبباً في تراجع وأفول المجتمع الفيودالي.

ورغم ذلك، أي رغم اختلاف تقدير دوركايم للمجتمع الحديث، مقارنة مع باقي مؤسسي الفكر السوسيولوجي وخاصة كونت وماركس. فإن أهم ما يميز مقاربة دوركايم للحداثة هو المكانة التي منحها هذا الأخير لتقسيم العمل باعتباره مصدرا مهماً ومركزيا في تحليل التمايز البنيوي داخل المجتمعات الحديثة. فكيف يمكن الاعتماد على هذا المفهوم واستعماله في تحليل الحداثة والمجتمع الحديث؟

إن أهم ما يميز تصور دوركايم لمفهوم تقسيم العمل، هو تجاوزه للمنطق الاقتصادوي الضيق في تحليل هذه الظاهرة، إذ يعلن منذ البداية أن تقسيم العمل الاجتماعي بالمعنى الذي يستعمل به هذا المفهوم يتجاوز المجال الصناعي والمنطق الاقتصادي26، لأنه فعل يمس كل عناصر الحياة الاجتماعية، ولا يقف عند حدود العمل الصناعي أو ينتهي عنده، إلى درجة يسهل معها ملاحظة هذه الظاهرة في كل مجالات الحياة الإجتماعية وعبر كل مستوياتها، فهو يهم المجال السياسي كما يعني القطاعات الإدارية، و يمتد إلى الفن ويصل حتى إلى العلم والفلسفة، فتقسيم العمل الاجتماعي كما يقوم دوركايم " لا يخص العالم الاقتصادي فحسب، بل يمكن ملاحظته في جهات مختلفة من المجتمع، فالوظائف السياسية، الإدارية والقانونية تتجه أكثر فأكثر نحو التخصص، بل إنه امتد " أي تقسيم العمل" حتى إلى الوظائف الفنية والعلمية"27. وهذا ما يعني أن تقسيم العمل الاجتماعي لا يعبر فقط كما يقول دوركايم عن ظاهرة عرضية أو غريبة في المجتمع الحديث، بقدر ما يقدم نفسه كصورة داخل صيرورة عامة، لا يمكن أن تفسر إلا بإسنادها إلى حركة التحديث العميقة التي تعرفها المجتمعات الغربية بشكل عام.

هذا من جهة، من جهة أخرى، يمكن القول أن أهمية تقسيم العمل الاجتماعي لا تكمن فقط في وجوده كسبب مباشر للتمايز البنيوي الذي تعرفه الحياة الاجتماعية الحديثة، وإنما تظهر كذلك في وجوده " كمصدر وحيد أو على الأقل أساسي للتضامن الاجتماعي" هذا إن لم نقل كبنية محددة للتضامن الاجتماعي، فدرجة تقسيم العمل في المجتمع لا تعبر فقط أو تكشف عن حجم التمايز الموجود بين البنيات والوظائف الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، بل إنها تحدد شكل وطبيعة التضامن والوعي السائد في المجتمع، لارتباطها الوثيق بالدينامية الاجتماعية ونمو التفاعلات بين الأفراد والمجتمع، بسبب نمو حجم الساكنة وارتفاع الكثافة السكانية.

تنتهي كل أشكال التقسيم الاجتماعي للعمل في نظر دوركايم إلى نموذجين من المجتمع، أول متمايز حديث، يقوم على ما يسميه دوركايم بالتضامن العضوي، لأنه يتشكل من نسق من الأعضاء والوظائف المختلفة، حيث يقوم كل فرد أو عضو منها بدور محدد، وثاني غير متمايز أو متمايز بشكل ضعيف، يتأسس على تكرار عناصر متشابهة ومتجانسة تقوم بنفس الفعل، ويطلق عليه دوركايم بالمجتمع ذو التضامن الآلي.

إن أهم مدخل يمكن من خلاله دراسة مختلف أشكال التضامن التي تنتج عن التقسيم الاجتماعي للعمل في نظر دوركايم هو نسق القواعد القانونية التي يعتمدها المجتمع في تدبير وتنظيم سلوك الأفراد داخل الجماعات والمجتمعات التي ينتمون إليها، ولأن تقسيم العمل لا يقدم نفسه في صورة واحدة ولا يتقدم في كل الأنساق الاجتماعية على نفس النمط، يميز دوركايم بين نوعين من أشكال العقاب التي يرتبط كل واحد منها بنموذج اجتماعي معين.

يتخذ العقاب في مجتمع غير متمايز طبيعة قمعية De Nature Répressive، أما الجريمة فيه أو الفعل الإجرامي فيكون في أغلب الأحوال، إن لم نقل دائماً هو تجاوز الفرد لاتفاق جماعي، وعدم احترامه لمعتقدات الجماعة وأخلاقها، ولقواعد تنظيم الفعل الجماعي في كل مستوياته، لذلك فالفعل لا يكون إجراميا كما يقول دوركايم إلا لأنه لا يحترم الحالة القوية التي يوجد عليها الوعي الجمعي، كما أن العقاب لا يكون إلا قمعياً حتى يتمكن من ضمان سيادة هذا الوعي. في المقابل يعتبر القانون ونظام العقوبات في المجتمعات ذات التضامن العضوي تقويمياًRestitutive أي أنه يقوم على الحد من الخسارة التي يمكن أن ينتج عن تجاوز ما لقاعدة اجتماعية معينة، أو إصلاح الضرر الذي من المحتمل أن يحدثه هذا التجاوز.

لا تعبر أشكال العقاب التي ميز بينها دوركايم فقط على أنماط التضامن السائدة في المجتمع، وإنما تعكس كذلك طبيعة الوعي السائد فيه، فالمجتمعات ذات التضامن الآلي حيث يتخذ العقاب شكلاً قمعياً، تقوم على حالة قوية من الوعي الجمعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، أي باعتباره كل منظم من المعتقدات والأحاسيس المشتركة بين كل أعضاء الجماعة، وعي يمتلك القدرة على اختراق كل الأوعية الفردية، وتشكليها في نفس الوقت، كما يتوفر على كل آليات القهر والإخضاع، على العكس من ذلك فإن حالة الوعي في المجتمعات ذات التضامن العضوي؛ تقوم على التأسيس للشخصيات الفردية، وتفسح المجال لظهور أنماط واسعة من الفعل الفردي، بل الأكثر من ذلك يؤكد دوركايم على أن الوعي الجمعي في هذا النوع من المجتمعات مضطر لأن يتيح مساحات لظهور الوعي الفردي وبروزه، ولعل هذا ما يمنح في نظر دانيلو مارتيشولي قوة لأطروحته القائمة على وجود التمايز الاجتماعي Différenciation Sociale كبينة مؤسسة لتصوره للفرد والمجتمع الحديثين28.

تظهر العبارة الأخيرة أن اهتمام دوركايم بتقسيم العمل الاجتماعي، لم يكن في الحقيقة، إلا من أجل البحث عن وضع الفرد ومكانته داخل النظام الاجتماعي29، وموقعه في صيرورة تطور المجتمع وتمايز بنياته ومؤسساته، بالإضافة إلى نتائج هذا الوضع وانعكاساته على النظام الاجتماعي بشكل عام، قبل الأفعال والعلاقات التي تتم بين الأفراد. غير أنه أهم خلاصة يمكن الانتهاء إليها في هذا الإطار والتي قد تبدو غريبة عن القراءة الإبيستمولوجية للمتن الدوركايمي، هو المكانة المهمة التي يمنحها دوركايم للفرد في النظام الاجتماعي كلما تعاظم تقسيم العمل وتنامى، ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من أكثر من عبارة وردت في " في تقسيم العمل الاجتماعي " من قبيل: " أن تكون شخصاً، يعني أن تكون مصدراً مستقلا لأفعالك"30، " عند الشعوب الدنيا Les Peuples Inférieures تكمن قيمة الفعل الخاص للإنسان في مماثلة رفاقه، وأن يحقق في ذاته كل خصائص النموذج الجماعي الذي يتم خلطه اليوم بشكل كبير مع النموذج الإنساني، لكن في المجتمعات المتقدمة، تكمن طبيعته بشكل كبير في وجوده كعضو في مجتمع، وفعله الخاص يتحدد في القيام بما يجب عليه فعله باعتباره عضواً"31.

إن المجتمع الحديث، أو المجتمعات المتقدمة إذن لا تختلف في نظر دوركايم عن الشعوب البدائية32، إلا من خلال هامش الحرية الذي تتيحه المجتمعات الأولى أمام الفرد مقارنة مع الثانية، وهذا ما ينسجم في الحقيقة مع كثير من الأطروحات السوسيولوجية المعاصرة للحداثة، التي تعتبر أن بروز الفرد واتساع هامش السلوك والمعرفة الفردية، لا يعدان فقط عنصراً هاما وبعداً أساسيا في الحداثة من حيث أسسها ومظاهرها الاجتماعية، وإنما، وهذا ما يهمنا في هذا الإطار، بنية مؤسسة للفعل الاجتماعي في المجتمع الحديث.

في نفس سياق الاهتمام الذي يبديه دوركايم بما يمكن أن يميز المجتمع الحديث عن دونه من الشعوب التي يسميها بدائية، يقدم هذا الأخير جماعات المهنيين corporation باعتباره أكثر المؤسسات الاجتماعية استعداداً للعب دور ريادي في عملية إدماج الأفراد في المجتمع، حيث يعتقد دوركايم أن الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الهيئات يتجاوز ما يمكن أن تقوم به العائلة أو الدولة في المجتمع الحديث، فالأولى بحكم انحسار أدوارها ووظائفها في هذا النوع من المجتمعات يصعب أن تربط بشكل صحيح أو كافي الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها، أما الثانية، أي الدولة فإن اتساع أدوارها واتجاهاها نحو قضايا أكبر، لم يجعلها إلا بعيدة عن بشكل كبير عن الفرد حتى تضمن ارتباطه بالمجتمع، أما جماعات المهنيين فإنها يقول دوركايم " تمتلك ما يكفي لتأطير الفرد، وجره من حالة العزلة الأخلاقية Isolement Morale التي يعيشها، خاصة مع عدم القدرة الذي يبدو على الجماعات الأخرى لفعل نفس الشيء، إنها الوحيدة التي يمكن أن تقوم بهذه المهمة الأساسية"33.

ينتج عن هذا الأمر34 سلسلة من الاختلالات، ويقدم في المتن الدوركايمي باعتباره مظهراً من مظاهر القطيعة التي تعلنها الحداثة مع ماضي المجتمع التقليدي بما هو مجتمع منغلق؛ مجال الإكراه فيه أكبر وأعمق من ميدان الحرية وهوامشها، فالمجتمعات الحديثة أو المجتمعات ذات التضامن العضوي كما يسميها دوركايم تصبح معرضة لعدد كبير من المخاطر، أهمها أن التمثلات الجماعية تفقد طابعها الكلي والشمولي في المجتمع الحديث، وتكتسب طابعاً جديداً هو التعدد والتنوع، إذ بقدر تنوع الحياة الاجتماعية وتشاكل اتجاهاتها وتخارج معظمها، وتعاظم القراءات الاجتماعية حولها، بقدر ما يفقد الفرد القدرة على الإحساس بالواقع، ويضعف ارتباطه بالجماعة التي ينتمي إليها، بل ويمنع كل عودة إليها من أجل " فهم " الواقع والاندماج فيه، ولعل هذا ما دفع إميل دوركايم إلى استدعاء عبارات قوية وعميقة من حيث دلالاتها السوسيولوجية عندما يتعلق الأمر بوصف هذا المعطى، حيث اعتبر أن الحالة التي يصل إليها الفرد في المجتمع في هذا النوع من المواقف تشبه إلى حد بعيد " العوم في الفراغ"35.

إن أهم خطر يواجه المجتمع الحديث من حيث هو مجتمع متمايز بنيويا ووظيفيا، هو غياب التوافق Consensus الذي لطالما اعتبره دوركايم عصب الحياة الاجتماعية والبنية التي لا يمكن أن يكون المجتمع موجوداً إلا بحضورها، وهو الأمر الذي انتبه إليه دوركايم في الحقيقة بالرجوع إلى ما يمكن تسميته بآليات الاندماج التي يمكن أن يجدها الفرد أمامه لتجاوز حالة الفوضى هذه التي تنتج أو يمكن أن تنتج عن تنوع الخطابات الاجتماعية وتتعدد المرجعيات الثقافية التي يتشكل منها المجتمع الحديث، وهي لا تخرج في الواقع عن بنيتين اثنتين هما التربية والدين، يتم من خلال الأولى تأهيل الفرد اجتماعياً، وتحقيق نوع من الإجماع عن طريق الثانية.



  1. التربية باعتبارها حلاً.

تلعب التربية في نظر دوركايم ومن خلالها كل المؤسسات التربوية في المجتمع وخاصة المدرسة دوراً محورياً داخل المجتمع الحديث، فهي تعتبر القناة التي يتم من خلالها نقل مجموع المعارف والأفكار الجماعية أو القيم التي يتم تقاسمها بشكل جماعي بين الأفراد، والرابط الوحيد الذي تتواصل من خلاله الأجيال في المجتمع الواحد، فهي تعد بمثابة " الفعل الذي يمارس من طرف الأجيال الراشدة على أولئك الذين لم يتأهلوا بعد إلى الحياة الاجتماعية، إن غايتها هو أن توقظ في الطفل وتنمي فيه عددا من الحالات النفسية والفكرية والأخلاقية التي يطلبها منه المجتمع السياسي في مجموعه، والوسط الخاص الذي توجه إليه"36. كما أنها لا تقدم نفسها فقط، في هذا النوع من المتون باعتبارها العملية الكبرى إن لم نقل الوحيدة التي يوجد المجتمع من خلالها " إذا كان من اللازم أن نبحث عن من له الفضل في وجود المجتمع، يجب القول أن التربية تضمن ما يكفي من الأفكار والأحاسيس بين الأفراد التي يستحيل وجود المجتمع في غيابها"37، بل هي الفعل الذي يمكن من خلاله أن نتحكم في شكل ونوع المجتمع الذي نريد، وهو الأمر الذي لم يكن يحتاج من إميل دوركايم جهداً كبيراً لإثباته، خاصة وأن التجارب التاريخية التي يقدمها هذه الأخيرة كانت كافية لبيان هذا المعطى، والكشف عن الطابع الاجتماعي الخالص للتربية والذي يظهر بشطل كبير في اختلاف التجارب التربوية عبر التاريخ وباختلاف المجتمعات الإنسانية: " إن التربية تختلف بشكل كلي عبر الأزمنة وحسب الدول، ففي المدن اليونانية واللاتينية، تعمل التربية على ترويض الفرد حتى يخضع بشكل أعمى للجماعة، ويصبح شيئا في ملكية المجتمع، أما اليوم فإنها تعمل على جعله شخصية حرة. في أثينا، كنا نبحث على تكوين عقول مرهفة، متنبهة، وصاحبة فكر ثاقب، شغوفة بالقياس والانسجام، قادرة على تذوق الجميل ونشوة التأمل الخالص، أما في روما، فقد كنا نريد من الأطفال قبل كل شيء، أن يصبحوا رجال أفعال Homme d’action، تواقين للمجد العسكري، غير مهتمين بما يتعلق بالآداب والفنون، في العصر الوسيط، كانت التربية مسيحية قبل كل شيء، في النهضة، أخذت بعداً لائكيا وأدبياً أكثر، أما اليوم فإن العمل استمحل المكان الذي كان يشغله الفن في الماضي"38.

إن قيمة التربية في المجتمع الحديث من حيث هي عملية اجتماعية كبرى لا تقف فقط عند حدود المكانة التي تحتلها في كل الأنظمة الاجتماعية، وإنما توجد بشكل أساسي في الدور الذي يمكن أن تلعبه التربية في مجتمع حديث وأمام تمايز اجتماعي متنامي، وهو الأمر الذي عبر عنه دوركايم بشكل واضح عندما اعتبر أن التربية في المجتمع الحديث يمكن أن تكون حلاً من بين الحلول الكبرى التي تلجأ إليها الدولة من أجل تجاوز حالة التمايز التي أمست تعيشها المجتمعات الأوروبية الكبرى، خاصة مع غياب القدرة على تحديد هذه الحالة بشكل دقيق: " لأن المجتمعات الأوروبية الكبرى تتضمن ساكنة كبيرة، وتستثمر في أعراق مختلفة، ولأن العمل مقسم إلى ما لانهاية، فإن الأفراد الذين يشكلونها يعيشون في اختلاف تام بعضهم عن البعض".

يجعل هذا النوع من الأوضاع من التربية مسألة سياسية بالدرجة الأولى، فهي ليست مسألة خاصة أو تقف عند المجال المنزلي وتتحدد بمجموع الحقوق والحدود التي تمتلكها الأسرة نحو الطفل، وتقصى الدولة من التدخل فيها بشكل آلي، وإنما قضية جماعية واجتماعية، إذ كيف يعقل أن تنسحب الدولة من تدبير وظيفة جماعية " إن التربية هي قبل كل شيء، وظيفة اجتماعية، فإذا كان الهدف منها هو تكيف الطفل مع الوسط الاجتماعي الذي قدر له العيش فيه، فإنه من المستحيل أن لا تهتم بهذا النوع من العمليات، إذ كيف يمكن لها أن تغيب وهي في هذا الشأن النقطة المرجعية التي يمكن أن نوجه من خلالها التربية وفعلها؟ إنها مسئولة " أي الدولة" باستمرار على تذكير المدرسين بنوع الأفكار والأحاسيس التي يجب طبعها في الطفل من أجل تحقيق الانسجام مع الوسط الذي يعيش فيه"39.

لا تعتبر التربية في المجتمع الحديث مظهراً من مظاهر حداثة هذا المجتمع أو انكشافاً لمجموع التحولات البنيوية التي عاشها عبر تاريخه، بل إنها تعد بنية أساسية ينهض عليها هذا النوع من المجتمعات الإنسانية وتؤسس في نفس الوقت لكل الأفعال والمؤسسات التي تعيش بين ظهرانيه، أما ما يكشف صدق هذا الواقع فهو خروج التربية فيه من الدائرة المنزلية الضيقة، وتحولها إلى مسألة سياسية كبرى تخص الدولة ومؤسساتها، وتتحول فيه القيم الأولية، بما هي قيم ومعارف وأحاسيس خاصة...الخ، إلى بنيات ثانوية وعامة، وهذا ما يعزز مكانة ودور الدولة في تدبير هذه الوظيفة الاجتماعية: " أما وقد أصبحت التربية وظيفة اجتماعية بالأساس، فإن الدولة لا يمكن أن تغفلها، بل على العكس من ذلك، إن كل ما يرتبط بالتربية يجب أن يكون بشكل أو بآخر خاضعاً لفعلها"40. خاصة وأن النموذج المثالي للتربية، يرتبط بمثال الإنسان41، وهذا الأخير _ أي مثال الإنسان_ لا يخرج على الإطلاق عن التصور الذي يضعه المجتمع وبالتالي الدولة للإنسان " لكل مجتمع مثال معين للإنسان، لما يجب أن يكون من وجهة نظر فكرية وطبيعية وأخلاقية، إن هذا المثال هو نفسه بالنسبة لكل المواطنين، ولا يختلف إلا تبعاً لطبيعة الأوساط الخاصة التي يتضمنها المجتمع داخله"42، وبالتالي فإن وظيفة التربية تكمن بالأساس في قدرتها على تقديم أفراد مستقلين متحررين من ثقل التقليد وقادرين على اتخاذ أحكام بشكل مستقل، فتصدع التقليد يجبر الأفراد بشكل دائم بالابتعاد عن التفكير الأخلاقي لأن " وهنا بالضبط توجد أكبر خصوصية للوعي الأخلاقي _ كما يقول دوركايم_ بالمجتمعات المعاصرة، لقد أمسى الذكاء وسيصبح أكثر فأكثر عنصراً من الأخلاقية La moralité"43.

إن مكانة التربية في المجتمع الحديث إذن لا تخرج عن القيام إذن بوظيفتين، أولى مهمة وتكمن في إعادة إنتاج نموذج الإنسان كما يتخيله ويبنيه المجتمع، وهي لا تختلف في هذا الأمر عن ما يوجد في كل المجتمعات الإنسانية، أما الثانية وهي الأهم؛ فتوجد في دعم قيم الحرية والعقل والنقد والاستقلالية في الفرد والابتعاد ما أمكن عن التلقيد والجماعة.

  1. الدين في المجتمع الحديث.

يحتل الدين في الدراسات الدوركايمية مكانة متميزة ، خاصة وأنه يقدم نفسه في هذا المتن، ومعه كل الأفكار والمفاهيم التي ترتبط به، كالله والأخلاق والعالم والطبيعة والزمن والوجود، والإنسان...الخ، كمظاهر للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، وليس العكس؛ لأن المجتمع هو من ينتج هذه الظواهر ومن خلالها الدين، وليس الدين هو من يصنع المجتمع وعبره كل هذه الظواهر الدينية على اختلافها وتعدد مستويات فعلها وتمظهرها في المجتمعات الإنسانية44. لهذا فإن المشروع العلمي ومعه المشروع المجتمعي الذي كان يحمله ويحلم به دوركايم عندما يتعلق الأمر بالدين، كان يقوم بأكمله على نقد كل الأنساق المعرفية والاجتماعية التي تقدم الدين وتنظر إليه كظاهرة أو فعل متعالي ومفارق أو ذو مصدٍر متعالٍ، أو حتى تلك التي تعتبره مصدراً أولياً وأساسياً لكل الأفعال والظواهر الاجتماعية45.

إن قيمة الأطروحة الدوركايمية في الدين، متضمنة كما هو معلوم في مستويات كثيرة من مقاربته للظواهر الدينية46، لكننا نعتقد أن أهم ما قدمه دوركايم بهذا الخصوص، لاسيما في الأشكال الأولية للحياة الدينية، وفي كثير من النصوص التي كتبها دوركايم قبل وبعد هذا النص، هو فكرتين أساسيتين تتجهان معاً نحو إمكانية إقصاء الدين من المجال الاجتماعي والفضاء العمومي بشكل عام، أو على الأقل تضييق هامش ومجال فعله في هذا الفضاء، أما الأولى، فهي أن فكرة الدين لا تقوم دائماً على وجود فكرة الله، أو فوق الطبيعي Surnaturelle إذ توجد الكثير من الديانات التي لا وجود فيها لفكرة الله، بل وحتى عندما توجد فإن هذه الأخيرة، لا تلعب دوراً مركزيا في ترتيب وتدبير الحياة الدينية والاجتماعية للأفراد، فهي أشبه ما تكون كما يقول دوركايم بديانات إلحادية: " توجد الكثير من الديانات تغيب فيها فكرة الله والأرواح، أو على الأقل لا تلعب فيها إلا دوراً ثانويا غير مرئي"47. أما الفكرة الثانية، فتتأسس على أن الديانات التي تتضمن فكرة الله، هي نفسها ديانات لا يقدم فيه الله بشكل واحد ووحيد، لأن هذا الأخير يتم إنتاجه اجتماعياً، وبالتالي فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية: " تعتبر الآلهة كائنات أقوى من الإنسان، لكنها تشبهه، وتعيش معه في المجتمع، إن الرابط الديني الذي يجمع بين الإنسان والكائنات الفوقية سيكون إذن رابطا اجتماعياً، إن الناس والآلهة إذن قريبة من بعضها البعض، إن تمس بعضها باستمرار، وتؤثر كل واحدة في الأخرى، إن الدين إذن هو مجموع القوانين التي تنظم هذه الأفعال وردود الأفعال الاجتماعية"48.

إن اختلاف النماذج والبنيات الاجتماعية، وتاريخ المجتمعات يجعل من الله كائنا مختلفاً كلما انتقلنا من مجتمع نحو الآخر، إلا وكنا أمام تمثل مغاير لله، فهو كائن متعال أحياناً يوجد ويعيش في مكان غير ذلك الذي يحيا فيه الأفراد، ومحايث مرة أخرى يوجد في أي مكان يعيش فيه، وفي كل فعل يقوم به الأفراد " يتضمن مجتمع الآلهة كل موضوعات الطبيعة، الحيوانات، النباتات، المياه، أي كل الأشياء التي يتواصل معها الإنسان باستمرار دون أن يحس أي تمييز بين الروح Ameوالجسد Corps، بين النفس Esprit والمادة Matière "49.

إن الله باعتباره الفكرة المركزية التي تقوم عليها الحياة الدينية لعدد كبير من المجتمعات الإنسانية، لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية يصنعها المجتمع لأنه يحتاج إليها من أجل تدبير الكثير من الأفعال والمشكلات التي تنشأ بين الأفراد، كما أن فكرة الله بدورها تحتاج إلى المجتمع، لأنه لا يمكن على الإطلاق وجود الله كما يرى دوركايم إلا بوجود المجتمع " صحيح أن الإنسان يخضع لهذه الآلهة، لكن هذا الخضوع متبادل، فالآلهة تحتاج هي الأخرى للإنسان، إذ بدون قرابين وأضحيات تموت "50، إن هذا المعطى لا يوجد في نظر دوركايم في ديانات بعينها، بل يحضر في كل الديانات حتى تلك التي تعتبر الأكثر مثالية كما يقول صاحب قواعد المنهج، وهذا ما يعني في الأول والأخير أن الحاجة إلى الدين لا تنبع عن ميل طبيعي، أو عن حاجة تبدو في الإنسان لفهم الطبيعة والعالم.

إن الرجوع إلى هذه العناصر التي نراها مرجعية في تعريف دوركايم للظواهر الدينية، وفي تحديده لبعض معالم مشروعه المجتمعي عندما يتعلق الأمر بالدين، لا تبرز الحاجة إليها إلا لكونها تدخل في صميم المقاربة الدوركايمية للحداثة وللمجتمع الحديث، ومن هنا يمكن أن نفهم ما قام به دوركايم بخصوص الدين من حيث وجوده كفعل اجتماعي، يخضع من حيث عمله وقوانينه ووجوده عموماً لنفس الشروط والضوابط الاجتماعية التي تحكم كل الظواهر الاجتماعية كيفما كان نوعها.

تخفي بساطة هذه الفكرة ووضوحها عمق العمل الدوركايمي في نقد المجتمعات التقليدية، وتفكيك بنية المجتمع حيث لا يلعب الدين فقط دوراً هامشيا في الحياة الاجتماعية، وإنما حيث تنمو وتتعاظم الدعوات لإقصائه من المجال العمومي، وعلمنة الفضاء العام في كل مستوياته، وتخليص الأخلاق من طابعها الديني، في إطار ما يمكن أن نسميه مع دوركايم الأسس اللائكية أو اللادينية للأخلاق.

يتلخص ما نسميه عمق العمل الذي قام به دوركايم في هذا الإطار في ثلاثة مستويات كبرى، يفضح كل واحد منها عند مستوى معين تهافت الحاجة إلى الدين وانحسار مكانته في مجتمعات الحداثة، أما أول هذه العناصر وأكثرها قوة بل إثارة للجدل حتى، فهو اعتبار دوركايم أن الدين والظواهر الدينية بكل أونواعها، لا تعدو أن تكون مظهراً من مظاهر كثيرة لثنائية المقدس Sacré والدنيوي Profane التي تخترق كل البنيات الاجتماعية، وتوجد في جميع النماذج المجتمعية التي عرفتها وتعرفها الإنسانية إلى حدود اليوم، ولأن الدين والظواهر التي يتشكل منها أو تنتجه51 لا تعكس إلا طبيعة المجتمع الذي توجد فيه، فإن دوركايم يصر وهذا ما يعطي طابع الجدة والفرادة لأطروحته على أن الدين باعتباره صورة للمقدس وتعبيراً رمزيا عن الحياة الواقعية للأفراد، لا يعدو أن يكون امتداداً للدنيوي الذي يؤسسه ويقوم عليه، وبالتالي فإن الحياة الدينية في المجتمعات الإنسانية عموماً، تعتبر بشكل أو بآخر، لا تقدم نفسها باعتباره ظواهر فريدة من نوعها sui generis داخل المجتمع، ومعزولة في المجتمع الذي توجد فيه وتتحرك بين ظهرانيه، بل إنه لا يعد إلا اتجاهاً رمزيا يشكله المجتمع للتعبير والدلالة على موضوعات وأشياء توجد في الواقع52.

إن الفكرة السابقة التي قدمت دوركايم كناقد صارم للاتجاهات المثالية في تفسير نشأة الحياة الدينية53 وخاصة ماكس ميلر Max Muller54 وهارماتان 55Hartmann، هي نفسها التي قادته لانتقاد تصور من أسماهم بأصحاب الفكر الحر libres penseurs للدين والتصورات الدينية، فصاحب الأشكال الأولية للحياة الدينية، يرفض بشكل قطعي أن يكون الدين عبارة عن نسق من الأفكار، أو نسق من التمثلات الموجهة نحو التعبير عن جزء من الواقع كالنوم والحلم والمرض والموت والظواهر الكبرى في الطبيعة بشكل عام56، إن آفة هذا النوع من التمثلات الاجتماعية للدين هو أنه يجعل من الدين ممارسة واعية يتجه الأفراد نحوها من خلال بذل جهد فكري قد يقل أو يكثر كلما انتقلنا من فرد لآخر، والحال أن الدين فيما يقول دوركايم " ليس فقط نسقاً من الأفكار، إنه قبل كل شيء نسق من القوى، فالإنسان الذي يعيش بالدين، ليس شخصاً يتمثل ويعرف العالم بهذه الطريقة أو تلك، شخص يعي ويعرف وحده ما يجهله الآخرون، إنه قبل كل شيء يحس في ذاته قوة لا مثيل لها، قوة لا يحس بها عندما لا يكون في حالة تدين...إن الإنسان عندما يعيش حياة دينية، يعتقد أنه يساهم في تشكل ووجود قوة تهيمن عليه، لكنها في نفس الوقت تدعمه ويقوم عليها"57. إلى جانب من أسماهم صاحب قواعد المنهج السوسيولوجي بأصحاب الفكر الحر libres penseurs، لم يجد هذا الأخير مرة أخرى بُداً من نقد من أسماهم بالمؤمنين الأحرار libres 58croyants، فهم يشبهون كما يقول دوركايم " الأعمى عندما يتحدث عن الألوان"، فما يؤسس الدين بالنسبة للمؤمن ليس فرضية معقولة أو مثيرة حول الإنسان وحول مصيره، إن ما يشد إلى الإيمان ويدفع إلى إليه، هو أنه جزء من وجود الإنسان، لا يكمن أن يحس لحظة التنازل عليه، إلا بضياع شيء منه، بفقدان شيء ما، بنقص في طبيعته، بانخفاض في درجة حرارته الأخلاقية"59. إن الخطأ الذي يرتكبه هذا النوع من المقبلين على الحياة الدينية هو اقتناعهم بامتلاكهم – يقول دوركايم الحقيقة الدينية-، والحال أنه لا توجد كما سبق أن بينا ذلك مع دوركايم لا توجد حقيقة دينية واحدة، بل حقائق دينية كثيرة تختلف باختلاف المجتمعات والتجارب الاجتماعية.

إن الفكرة الثالثة التي تبين أصالة تفكير دوركايم في المسألة الدينية، وتكشف بوضوح جلي موقع الدين في المشروع الفكري للدوركايم، وفي المجتمع الحديث كما يتخيله هذا الأخير، تكمن في إيمانه الكبير في انسحاب الدين من الحياة الاجتماعية، وغيابه سواء كسجل تفسيري للواقع والعالم بشكل عام، أو كمرجع للقيم الأخلاقية والاجتماعية...الخ، لأن الدين الحقيقي في المستقبل هو اللادين"60.

تعبر هذه الفكرة في الحقيقة عن مرحلة متقدمة من الحياة الفكرية لدوركايم، وهي المرحلة التي كانت متشبعاً فيها بالفكر الاشتراكي وبالحركة العلموية التي طبعت نهاية القرن التاسع عشر، فاعتقاد دوركايم على غرار الكثير من أبناء جيله، وتأثره الكبير بأفكار وأعمال كونت وسبنسر، بأن الأفكار ستعوض المعتقدات، وبأن تطور المعرفة العلمية والفلسفية، سيكون كافياً لفضح تهافت وتفاهة الكثير من المعارف الدينية، هو ما جلعه يعلن عن الفكرة السابقة " الدين الحقيقي في المستقبل هو اللادين"، رغم كل ما تحمله من قوة على إثارة " المشاعر والاستفزاز" خاصة في بعض السياقات الاجتماعية التي لم تكن تقبل أبداً بفكرة أو حتى بإمكانية غياب الدين عن الفضاء العمومي.

ولأن الأفكار تتغير لأنها أفكار لا معتقدات، فقد كان تراجع - إن لم نقل - تنازل دوركايم عن جزء من المشروع " الحلم" التطوري، المتمثل في انسحاب الدين من الفضاء العمومي والحياة الاجتماعية في المستقبل، جزءا من تطور المعرفة السوسيولوجية والتجربة العلمية التي راكمها هذا الأخير على مدار ما يناهز ثلاثون سنة61، فإذا كان دوركايم يعتقد في " في لا دينية المستقبل" بأن الدين الحقيقي للمستقبل هو اللادين" فإن هذه الفكرة ستتحول إلى ما يشبه نقيضها، عندما سيعتبر دوركايم في مستقبل الدين، أن التجربة الدينية هي جزء من الوجود الإنساني، بل إنه ترتبط بالتجربة الإنسانية في كل تجلياته وفي جميع لحظاتها، وبالتالي فإن كل ما يمكن القيام به في المستقبل، أو ما يجب القيام به في المستقبل، هو الوعي بالأصول الاجتماعية للدين، والطابع الاجتماعي للظواهر الدينية أينما وجدت، فالدين أولا وأخيراً ظاهرة اجتماعية يصنعها ويشكلها المجتمع وليس العكس.

على سبيل الختم

يتضح من خلال ما سبق أن القراءة التي نقدم في هذه الدراسة للسوسيولوجيا الدوركايمية لا تقدم معطيات جديدة في المتن الدوركايمي، - رغم أننا نقدم فيها أمام القارئ المبتدئ من جهة وغير المتخصص من جهة ثانية لأول المرة مجموعة من النصوص التي لم تقدم بما يكفي من العناية، أو التي كانت مستحيلة حتى على الباحث المتخصص نفسه قبل نشرها سنوات قليلة ماضية فقط -، بقدر ما هي محاولة لبسط أسئلة جديدة على طروحات دوركايم حول المجتمع الحديث، وموقعته ومقارنته ببعض المشاريع السوسيولوجية الأخرى القريبة من دوركايم مجالا وفكراً أو البعيدة عنه إيديولوجيا وعلمياً.

إن أهم خلاصة يمكن الانتهاء إليها في هذه المحاولة هو أن المجتمع الحديث في السوسيولوجيا الدوركايمية لا يقوم على بنية واحدة، كما أنه لا يتمظهر في بعد واحد من أبعاد الحداثة، فإذا كان تقسيم العمل يعتبر أول مظاهر المجتمع الحديث وبنياته، من حيث هو مجتمع تتمايز أسسه وقواعده ومكوناته، ومن حيث هو مجتمع تتسع فيه هوامش الحرية والاختلاف أمام الأفراد، وتضيق فيه حدود العقاب والمراقبة بما هي حدود أخلاقية وثقافية واجتماعية، على عكس المجتمع البدائي أو لنقل بلغة راهنة المجتمع التقليدي – يسمي دوركايم هذه المجتمعات، بالمجتمعات ذات التضامن الآلي- الذي يضيق فيه مجال الاختلاف والتمايز بين البنيات والمؤسسات الاجتماعية، ويضعف فيه التقسيم الاجتماعي للعمل إلى أبعد مدى، ويقوم فيه العقاب والجزاء على انتهاك أو احترام القواعد والحدود الأخلاقية والدينية والثقافية بشكل عام، كما أن الجماعة تظهر في هذا النوع من اللحظات باعتبارها العقاب نفسه.

هذا من جهة، من جهة أخرى يبدو أن الفرق بين المجتمعات الحديثة ونظيرتها التقليدية، لا تقدم في المتن الدوركايمي انطلاقاً من ثنائية تقسيم العمل المعروفة: مجتمعات ذات تضامن عضوي مقابل مجتمعات ذات تضامن آلي، وإنما تبدو كذلك في الموقع الذي يمكن أن تحتله التربية في المجتمع الحديث، والدور الذي يجب أن تلعبه فيه، فالتربية والأخلاق في هذا النوع من المجتمعات تنفصل أو من الضروري أن تنفصل حسب دوركايم عن الدين بالدرجة الأولى وعن الأسرة في مرحلة ثانية، ذلك أن التربية يجب أن تتحول إلى مسألة تهم الدولة وليس فعلا يقوم به الأفراد كل انطلاقاً من قناعاته وميوله أو ثقافته الخاصة، فالمجتمع الحديث بلغ كثافة، أضحى معها الاختلاف والتمايز بين الإثنيات والأديان واللغات والتواريخ سمة مميزة لهذا المجتمع، ما يعني أننا لو تركنا لكل عرق حرية تربية أبنائه على طريقته الخاصة، سيصبح المجتمع ومعها كل أشكال التوافق والاتفاق الاجتماعي مهددة إن لم نقل مستحيلة، وبالتالي فإن أول ما يجب أن تقوم به الدولة في هذا الإطار هو علمنة الأخلاق والقيم والقواعد والقوانين الاجتماعية إلى درجة يمكن أن تستوعب معها الجميع.

أخيراً وليس آخر، يمكن القول مع دوركايم أن المجتمع الحديث هو مجتمع لا ديني، أو على الأقل هو مجتمع يتجه نحو إبعاد الدين عن المجال العمومي، غير أن دوركايم لم يكن ليعلن هذه الفكرة إلا بعد أن قام بجهد معرفي عميق وكبير في نفس الوقت، أظهر من خلاله في غير ما مكان وفي أكثر من زمن أن الدين ليس ولم يكن إلا ظاهرة اجتماعية، وبالتالي فإن البعد الميتافيزيقي الذي يمكن الحديث عنه عندما يتعلق الأمر بالدين يوجد في المجتمع وليس خارجه، لأن المجتمع هو من قام بإبداع هذا البعد وخلقه، وليس العكس، بل الأكثر من ذلك إن الله باعتباره أكثر المفاهيم والعناصر الدينية التي يتم الحديث عنه بوصفها ظواهر ميتافيزيقية في الدين، ليس إلا إبداعاً اجتماعياً، والدليل على ذلك ليس فقط غياب مجتمعات تغيب فيها فكرة الله، أو مجتمعات يختفي فيها الله وراء أشياء وظواهر طبيعية تتقاسم مع الإنسان وجوده في العالم، وإنما لأن الله نفسه يحتاج إلى المجتمع إن لم يكن هو المجتمع نفسه، فهذا الأخير يقول دوركايم يحتاج إلى الله بمثل حاجة الله إلى المجتمع.

إن هذا التفكيك الذي يعبر السوسيولوجيا الدوركايمية في لحظات كثيرة هو الذي قاد دوركايم بالإضافة إلى اعتقاده في النموذج التطوري بصيغته الكونتية، - القائم على تعويض العلم والمعرفة العقلية الوضعية للعالم كل أشكال الوعي الأخرى بالطبيعة والإنسان والعالم والكون بشكل عام- إلى القول بأن دين المستقبل هو اللادين، فكلما تطورت المجتمعات عبر الزمن، كلما أصبحت المجتمعات أكثر تمايزاً، كلما أمست الأخلاق والتربية في هذه المجتمعات لائكية، كلما اتجه الدين نحو الاختفاء من المجال العمومي، وهذا هو المجتمع الحديث في صيغته الدوركايمية.

المراجع:

  1. Aron, Raymond, Les sociétés modernes, puf, 2006.

  2. Boudon, Raymond, Etude sur les Sociologues Classiques, PUF, 1998

  3. Comte, Auguste, Plan des Travaux Scientifiques nécessaires pour réorganiser la société, Paris: Les Éditions Aubier-Montaigne, 1970.

  4. Copans, Jean, Et Autres, L’anthropologie sciences des sociétés primitives? Collection le point de ma question, 1971.

  5. Danilo, Martuccelli, Sociologie de la modernité L’itinéraire du XXe siècle, Editions Gallimard, 1999.

  6. Emil, Durkheim, De la division du travail sociale, Puf, 1964

  7. Émile, Durkheim, Le suicide, PUF, paris, 1995.

  8. Émile, Durkheim, Les règles de la méthode sociologique, Edition électronique, les classiques des sciences sociales, 1894.

  9. Emile, Durkheim, Education et sociologie, Edition Electronique, les classiques des sciences sociales, 1922.

  10. Emile, Durkheim, L’éducation Morale, Edition Electronique Les Classiques Des Sciences Sociales, 1902-1903

  11. Emile Durkheim, De l’irréligion de l’avenir, Edition Electronique, Les Classiques Des Sciences Sociales, 1914

  12. Emile Durkheim, Débat sur Le Fondement Religieux ou Laïque à Donner à la morale, Edition Electronique, Les Classiques Des Sciences Sociales, 1909

  13. Emile, Durkheim, les formes élémentaire de la vie religieuse, PUF, Paris, 6 Editions, 2008

  14. Emile, Durkheim, L’avenir de la religion, Edition Electronique Les Classiques Des Sciences Sociales,1887

  15. Habermas, Jürgen, Théorie de l’agir communicationnelle, paris, fayard, 1987

  16. Habermas, Jürgen, La modernité un projet inachevé, critique, 1981

  17. Habermas, Jürgen, le discours philosophique de la modernité, paris, Gallimard, 1988.

  18. Linda, Rouleau, théories des organisations, approches classiques et contemporaines et de l’avant-garde, presses de l’université de Québec, 2007.

  19. Max, weber, Le savant et le politique, Poche, 2002.

  20. Max, weber, Economie et Société, Pocket, 2003

  21. Max, weber, Ethique protestante et l’esprit de capitalisme, Poche, 1991.

  22. Max, weber, La ville, La Découverte, 2014.

  23. Touraine, Alain, critique de la modernité, paris, fayard, 1992

  24. Touraine, Alain, la société postindustrielle, paris, Denoël, 1969


1 Raymond, Aron, Les sociétés modernes, PUF, 2006.

2 Danilo, Martuccelli, Sociologie de la modernité L’itinéraire du XXe siècle, Editions Gallimard, 1999.

3 Jürgen, Habermas, Théorie de l’agir communicationnelle, paris, Fayard, 1987.

4 Alain, Touraine, Critique de la modernité, paris, Fayard, 1992.

5 Raymond, Boudon, Etude sur les Sociologues Classiques, PUF, 1998.

6 عرفت قاعدة تشييء اللأفعال والظواهر الاجتماعية عند دراستها.

7 غالبا ما يركز التلقي العربي للحداثة على مشكلة العقل باعتبارها البنية المؤسسة للمجتمع الحديث ويتم إغفال باقي البنيات المؤسسة للمجتمع الحديث، كما لو أن المشكلة الكبرى للحداثة ترتبط بالوعي وبما هو نظري خالص، يمكن العودة في هذا الإطار إلى أطروحة محمد عابد الجابري في رباعية العقل العربي، أو إلى عبد الله العروي في مفهوم العقل والأمثلة كثيرة في هذا المجال، كما أن التركيز على الديكارتية باعتبارها العتبة الكبرى للحداثة أدى إلى ضياع كثير من الوقت على المجتمعات العربية مثلا في الانتباه إلى عتبات أخرى للحداثة.

8 توجد في هذا الإطار مجموعة من الدراسات التي قدمها جاك غودي Jack Goody حول الطبخ والمطبخ في المجتمعات الإفريقية والأسيوية مقارنة مع المطبخ الغربي.

9 تصنيف أوكست كونت للعلوم يضع السوسيولوجيا كآخر علم أبدعه العقل الحديث وتحتاجه المجتمعات المعاصرة

10 يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى ليفي برويل، مالينوفسكي ومورغان ودوتي وميشو بلير....الخ، كما يمكن العودة إلى المراجعات الكثيرة التي قام بها بعض الكثير من الأنتربولوجيين لهذه الأعمال، نذكر على سبيل لمثال جورج بالندييه وكلود ليفي شتروس وجاك بيرك...الخ.

11 Jean, copans, et autres, L’anthropologie sciences des sociétés primitives? Collection le point de ma question, 1971.

12 تشكل أعمال دوركايم في هذا السياق نموذجا متميزاً للأطروحات التي دافعت عن أهمية بناء معرفة علمية تدرس المجتمعات المسماة بدائية، وتوجد بعض معالم هذه الأطروحة في الأشكال الأولية للحياة الدينية، وفي الجماعة والمجتمع عند فرديناند تونيس.

13 لا يخفى أن هنا إرثا واسعاً يسمى بالاتجاه الإصلاحي في السوسيولوجيا، لم يكن متحمساً لسرعة التغيرات التي عرفتها أوروبا الغربية في ذلك الوقت، وكانت تنادي بضرورة الإصلاح وضبط التغير والتحكم فيه.

14 غالبا ما يستدل الباحثون في تاريخ الفكر السوسيولوجي بالعبارة الماركسية المعروفة: " لم يعمل الفلاسفة إلى حدود اليوم إلا على تفسير العالم، في حين أن المطلوب هو تغيير العالم".

15 A. Comte, Plan des Travaux Scientifiques nécessaires pour réorganiser la société, Paris: Les Éditions Aubier-Montaigne, 1970, p. 50.

16  استعمل أوكست كونت في كتاباته وخاصة تلك التي تتضمن نظريته حول المجتمع، عبارات كثيرة من قبيل حضارتنا الحديثة notre Civilisation Moderne والحداثيون les Modernes ، الحداثيون الغربيون Les Modernes Occidentaux .

17 يستعمل عبد الله العروي في الإسلام والحداثة عبارة تحمل الكثير من المعاني كما لو أنه يصف ما نريد الحديث عنه، أو بالأحرى ما كان كونت حريصاً على قوله " الحداثة تجتاح كل المجالات ولا يستطيع أن يوقفها أحد".

18 Jürgen, Habermas, le discours philosophique de la modernité, paris, Gallimard, 1988.

19 A. Touraine, Critique de la Modernité, Paris, les Editions fayard, 1992, p. 125.

20 Max, weber, Le savant et le politique, Poche, 2002.

21 Max, weber, Economie et Société, Pocket, 2003.

22 Max, weber, Ethique protestante et l’esprit de capitalisme, Poche, 1991.

23 Max, weber, La ville, La Découverte, 2014.

24 Linda, Rouleau, théories des organisations, approches classiques et contemporaines et de l’avant-garde, presses de l’université de Québec, 2007, p. 5.

25 يختلف دوركايم عن ماركس وكونت في قراءته لهذه اللحظة حتى وإن تقاسم معهما جزءا من تصورهما لها.

26 يعتبر دوركايم أن الفضل في ظهور مفهوم تقسيم العلم الاجتماعي يعود إلى آدام سميتAdam Smith ، ومنه انتقل إلى البيولوجيا قبل أن يعود مرة أخرى إلى السوسيولوجيا.

27 Emil, Durkheim, De la division du travail sociale, PUF, p.2

28 Danilo, Martucceli, sociologies de la modernité, op.cit. p.38.

29 قد يبدو للبعض أن هذه الفكرة تتناقض بشكل كبير مع روح الأطروحة الدوركايمية التي تقوم على الهيمنة المطلقة للمجتمع على الفرد، لكننا العودة إلى أطروحة تقسيم العمل الاجتماعي وإلى الكثير من عناصر هذا النص المؤسس للسوسيولوجيا الدوركايمية، يظهر بشكل كبير أن حجم سوء الفهم الذي طبع تناول بعض الباحثين في علم الاجتماع لأعمال دوركايم من حيث عدم التمييز بين المتن الإبيستمولوجي والمعرفي في أطروحاته، وبين مشروعه الفكري والمجتمعي.

30 Emile, Durkheim, de la division du travail social, op.cit. p.399.

31 Ibidem.

32 من الواضح أن تمييز دروكايم بين المجتمعات المتقدمة والشعوب البدائية، يظهر حجم تأثره بالتمييز الذي أقامه تونيس بين الجماعة والمجتمع، حيث يظهر أن إميل دروكايم لم يستعمل سواء في تقسيم العمل الاجتماعي أو في الأشكال الأولية للحياة الدينية، عند حديثه عن ما يمكن أن نسميه المجتمعات البدائية، مفهوم المجتمع بل اكتفي باعتبارها شعوباً " لا تحمل كلمة الشعب في المتن الدوركايمي هاهنا حمولة سياسية ترتبط بالثورة الفرنسية أو بمرحلة معينة من تشكل الوعي السياسي الغربي بشكل عام كما يمكن أن نعتقد ذلك، بقدر ما ترتبط بالتمييز الذي أقامه تونيس، كما أن كلمة peuple الفرنسية لا تحيل فقط على هذا المعنى ولا تستعمل للدلالة فقط على هذا البعد من الوجود الاجتماعي، بل إنها توظف كذلك المكان العامر بالسكان، ومنه الفعل الفرنسي peupler

33 Émile, Durkheim, le suicide, Puf, paris, 1995, pp.435-436.

34 نقصد اتساع هامش الحرية أمام الفرد وانسحاب المؤسسات المرجعية في المجتمع ونقصد بشكل أساسي العائلة والدولة.

35 Émile, Durkheim, les règles de la méthode sociologique, édition électronique,

36 Emile, Durkheim, Education et sociologie, texte préparé par Jean-Marie Tremblay, Edition Electronique, les classiques des sciences sociales, P. 9.

37 Ibid., P14..

38 Ibid. p.5.

39 Ibid., P.13.

40 Ibid., P.14

41 يستعمل دوركايم عبارة idéal de l’homme كما يستعمل عبارة ideal de l’éducation

42 Ibid., P. 8.

43 Emile, Durkheim, L’éducation Morale, Les Classiques Des Sciences Sociales,

44 تعد هذه الأطروحة انقلابا على كثير من التصورات الدينية على وجه الخصوص، التي تعتبر أن الأصل في وجود الأفعال والظواهر الإنسانية هو الدين، ونعتقد أن استثمار هذه الفكرة في قراءة وإعادة قراءة النصوص الدينية على اختلاف مستوياتها سيكون مفيداً بل ضروريا في فهم وتحليل هذه النصوص، وهو الأمر الذي نعتقد أن قلة من الباحثين فقط من توفقت في هذا الفعل بذكر على سبيل المثال لا الحصر عندما يتعلق الأمر بالفكر الإسلامي محمد عابد الجابري في رباعية نقد العقل العربي وخاصة العقل السياسي العربي ومدخل إلى القرآن الكريم، وعبد الإله بلقزيز ونبيل فازيو وبنسالم حميش...الخ.

45 يمكن أن نتحدث في هذا الإطار على النقد الذي وجهه دوركايم لدلفوفي Delvolvé في السجال الشهير الذي جمعهما حول الأسس الدينية أو اللائكية لتي يجب أن تضفى على الأخلاق، حيث رفض دوركايم كل مشروع أخلاقي يقوم على الدين وعلى فكرة الله أساساً، لأن هذه الفكرة تلغي واقع الاختلاف الذي تقوم عليه المجتمعات الإنسانية، لاسيما وأن وضع الله كمصدر للوعي الأخلاقي يمنع فكرة تغير النظام الأخلاقي التي يؤمن بها دوركايم، فهو يعتبر أن الأخلاق تتغير كلما تغير المجتمع، أما وأن فكرة الله تتميز بالثبات وبطابعها المطلق والمجرد، فإنه لا يمكن أن تتغير أبداً، وهذا ما يتناقض في نظره مع الواقع جملة وتفصيلا.

Emile Durkheim (1909), Débat sur Le Fondement Religieux ou Laïque à Donner à la morale, Les Classiques Des Sciences Sociales,


46 وقفنا على أكثر من عشر دراسات أنجزها دوركايم في أوقات متفرقة حول الظواهر الدينية، اهتم في بعضها بعلاقة الدين بالأخلاق وبالدور الذي يمكن أو يجب أن يلعبه الدين في تأسيس الأخلاق، وفي أخرى بمستقبل الدين ومآله، وفي أخرى بأشكال تمثل الدين والأفعال الدينية....الخ.

47 Emile, Durkheim, les formes élémentaire de la vie religieuse, PUF, Paris, 6 édition, 2008, P.41

48 Émile, Durkheim, De l’irréligion de l’avenir, "Les classiques des sciences sociales, Revue Electronique, P. 6.

49 ibidem.

50 Émile, Durkheim, Les Formes Élémentaire De La Vie Religieuse, P.53.

51 يقيم دوركايم كما هو معلوم فرقاً بين الدين والظواهر الدينية، يعتبر فيه أن الدين لا يعد سوى عنصرا من الظواهر الدينية التي تعتبر في نظره أكبر من الدين لأن تتضمن مستويات كثيرة من الحياة الدينية تستعصي على الدين من حيث إمكانية استيعابها والوعي بها.

52 Danilo, Martuccelli, sociologie de la modernité L’itinéraire du XXe siècle, op.cit. p.58

53 يرفض دوركايم بشكل قاطع أن تكون الحياة الدينية ناشئة عن إحساس مبهم باللانهائي وبالله، وهي الفكرة التي انتقد فيها بالضبط ماكس ميلر وهارماتان

54 ماكس ميلر مستشرق وفيلولوجي ألماني، درس لما يناهز عشر سنوات الثيولوجيا المقارنة، عرف باهتمامه ودراسته للثقافة الهندوسية على وجه الخصوص، دافع في معظم أعماله على فكرة أن الثقافة الهندوسية بأكملها ليست إلا عبادة للطبيعة، أما الآلهة فهي القوى الحية للطبيعة كما تم تجسيدها، إنها ظواهر طبيعية تم تشخيصها.

55 هارتمان Hartmann فيلسوف ألماني اهتم بتطور الوعي الديني وأشكاله.

56 Émile Durkheim (1914), « L'avenir de la religion », les classiques des sciences sociales, P.4.

57Ibidem.

58 تجدر الإشارة إلى أن المقال المنشور المعنون بمستقبل الدين، لم يكن في الواقع إلا محاضرة ألقاها دوركايم على هامش لقاء نظم من طرف اتحاد المفكرين الأحرار والمؤمنين الأحرار من أجل ثقافة أخلاقية" سنة 1914 .

59 Émile Durkheim (1914), « L'avenir de la religion », op.cité. P. 5.

60 Émile Durkheim (1887), “ De l’irréligion de l’avenir ” les classiques des sciences sociales, 11

61 هي الفترة الفاصلة بين كتابة دوركايم ل في لا دينية المستقبل De l’irréligion de l’avenir، ومستقبل الدين L'avenir de la religion.

مواضيع سابقة
مقالات اجتماعية

شارك مع اصدقائك

تعليقاتكم
اشعارات
اهلا بك اخى الكريم فى مدونة مقالات .
ان كنت من المهتمين بكل جديد حول ما نقدمه من معلومات موثوقة يمكنك الاشترك فى مدونة مقالات حتى تكون اول المستفيدين من مقالاتنا.
=================================
وان كان لديك اى اسئله او اقتراحات يمكنك التواصل معنا عبر مواقع التواصل الاجتماعى اسفل الرساله وسوف نقوم بالرد فى اسرع وقت .
شكرا على المتابعه .

حسنا